لمّ الشمل الجزائريّ… قبل الشمل العربيّ!

مدة القراءة 6 د

مشكورة الجزائر على استضافة القمّة العربيّة، علماً أنّ القمم العربيّة لم تعد تقدّم ولا تؤخّر. مشكورة أكثر لأنّ النظام فيها اختار شعار “لمّ الشمل” عنواناً للقمّة. سيكون النظام مشكوراً، أكثر فأكثر، في حال استطاع تطبيق هذا الشعار على نفسه أوّلاً والاستفادة من تجربة فشله في تمكين بشّار الأسد، المسؤول عن قتل نصف مليون سوري، في أقلّ تقدير، وتشريد ما يزيد على عشرة ملايين من مواطنيه، من حضور القمّة وإعادة الاعتبار إليه. وجد النظام الجزائري مخرجاً من المأزق الذي أوقع نفسه فيه، عندما أقنع بشّار بالقول إنّه لا يريد حضور القمّة. استعان بذلك، على الأرجح، بالجانب الروسي الذي لا يزال يمتلك بعض القدرة على التأثير على الأسد الابن.

تنعقد قمّة الجزائر في وقت يشعر فيه النظام بأنّه في وضع يسمح له بالعودة إلى ممارساته القديمة. يظنّ ذلك من منطلق أنّه بات قادراً مرّة أخرى على لعب دور القوّة المهيمنة في المنطقة وإعطاء دروس في الوطنيّة عبر إطلاق شعارات فارغة من أيّ مضمون معتمداً على عائدات النفط والغاز، بل الغاز أوّلاً، في ظلّ أزمة الطاقة التي تعاني منها أوروبا.

ما يريد العرب الواعون سماعه من قمّة الجزائر هو خطاب مختلف تماماً عن تلك اللغة الخشبية التي يعتمدها نظام عسكري لم يستطع في يوم من الأيّام أن يكون نظاماً طبيعياً متصالحاً مع شعبه ومع محيطه المباشر

مرّة أخرى، لا يمكن إلّا الترحيب بالقمّة، خصوصاً في هذه الظروف الدقيقة والمعقّدة في المنطقة والعالم مع استمرار حرب أوكرانيا. يظلّ التشاور بين القادة العرب، ومن يمثّلهم، أفضل من لا شيء، علماً أن لا قيمة من أيّ نوع لأيّ مشاورات في غياب الرغبة في التعاطي مع الواقع بدل الهرب منه.

قبل انعقاد قمّة الجزائر، يمكن الكلام عن فشلين ونصف فشل لنظام لم يعرف يوماً أنّ عائدات الغاز والنفط لا تصنع سياسة بنّاءة إلّا في حال وضعها في خدمة الشعب الجزائري ورفاهه أوّلاً وأخيراً. كان الفشل الأوّل في محاولة إعادة النظام السوري إلى الصفّ العربي في وقت ليس هناك ما يشير إلى أنّ هذا النظام يستطيع التخلّص من الهيمنة الإيرانيّة، وهي هيمنة كانت إيرانية – روسية قبل التراجع النسبي للدور الروسي في سوريا.

أمّا الفشل الثاني فكان في محاولة إقحام قضيّة الصحراء المغربيّة في جدول أعمال القمّة. سعى النظام الجزائري إلى استخدام الرئيس التونسي قيس سعيّد في مرحلة معيّنة عندما أقنعه باستقبال زعيم “بوليساريو” إبراهيم غالي في قمّة إفريقية – يابانية لا علاقة له بها من قريب أو بعيد. قبل ذلك، وضع رئيسَ السلطة الوطنيّة الفلسطينيّة محمود عبّاس (أبو مازن) في مستوى زعيم “بوليساريو” في احتفالات عيد الاستقلال الجزائري في تشرين الثاني الماضي. كانت تلك جريمة موصوفة في حقّ فلسطين والفلسطينيّين الذين يدّعي النظام الجزائري الدفاع عنهم من باب المزايدات ليس إلّا. إنّ المقارنة بحدّ ذاتها بين القضيّة الفلسطينيّة، وهي قضيّة شعب لديه حقوقه المشروعة، وبين قضيّة مفتعَلة مثل قضيّة الصحراء المغربيّة، تعكس رغبة في الإساءة إلى فلسطين وتحويلها مادّة للمتاجرات السياسية.

يظلّ التشاور بين القادة العرب، ومن يمثّلهم، أفضل من لا شيء، علماً أن لا قيمة من أيّ نوع لأيّ مشاورات في غياب الرغبة في التعاطي مع الواقع بدل الهرب منه

عندما تعلّق الأمر بمحاولة جعل قضيّة مفتعَلة، مثل قضيّة الصحراء، تتسلّل خلسة إلى القمّة، كان للعرب الواعين موقف واضح. جعل هذا الموقف النظام الجزائري يتراجع، خصوصاً أنّ أكثريّة عربيّة تقف مع المغرب ومع وحدته الترابيّة، وتعرف أنّ قضيّة الصحراء ليست سوى جزء من حرب استنزاف يشنّها النظام الجزائري على دولة جارة لم تقدّم له يوماً سوى الخير.

أمّا بالنسبة إلى نصف الفشل الجزائري، فهو يقع في السعي إلى مصالحة فلسطينية – فلسطينية، بين “فتح” و”حماس”.  يحاول إتمام مثل هذه المصالحة. قد ينجح في ذلك شكلاً، لكنّه سيفشل في العمق. يعود ذلك بكلّ بساطة إلى أنّ أيّاً من الطرفين لا يستطيع دفع ثمن المصالحة.

قاطع عدد لا بأس به من الزعماء العرب قمّة الجزائر. لن ينقذ القمّة سوى حضور الملك محمّد السادس الذي قد يحضر لإثبات أنّ العلاقة بين الشعبين المغربي والجزائري لا تتأثّر بنظام لم يعرف يوماً كيف يتصالح مع الجزائريين، بل يهرب باستمرار من أزماته الداخليّة إلى خارج حدوده. بات حضور محمّد السادس القمّة هاجساً لدى النظام الجزائري الذي تعاطى بطريقة لا علاقة لها بالدبلوماسيّة مع الوفد الوزاري المغربي، برئاسة وزير الخارجيّة ناصر بوريطة، الموجود في الجزائر للمشاركة في الإعداد للقمّة العربية.

لن تكون أيّ قيمة لقمّة الجزائر إلّا إذا استطاع المشاركون فيها مواجهة الواقع بدل الهرب منه. يتمثّل الواقع في أنّ الخطر الأكبر على العالم العربي، أو ما بقي منه، هو المشروع التوسّعي الإيراني. يُفترض في القمّة أخذ العلم بما أعلنه عمر هلال السفير المغربي لدى الأمم المتحدة أخيراً من أنّ “إيران زوّدت مقاتلي جبهة بوليساريو بمسيَّرات. الإيرانيون وحزب الله يتوغّلون في شمال إفريقيا، وهذا تطوّر جيوسياسي خطير يهدّد الأمن القومي لدول الإقليم. إيران تريد زعزعة استقرار منطقتنا بعدما قوّضت استقرار سوريا واليمن والعراق ولبنان”. هل يمتلك النظام الجزائري ما يكفي من الجرأة كي يجعل للقمّة التي سيستضيفها البلد قيمة ما؟

إقرأ أيضاً: سذاجة الغرب… والعلاقة الروسيّة – الإيرانيّة

في ضوء تجارب الماضي القريب، يصعب التفاؤل بقمّة الجزائر، لا لشيء إلّا لأنّ النظام في هذا البلد يرفض تطوير نفسه ويفضّل البقاء أسيراً للعقدة المغربيّة. يعتقد أنّ ارتفاع أسعار الغاز والنفط يسمح له برشوة الشعب الجزائري وشراء السلم الأهليّ لمرحلة معيّنة، ويسمح له برشوة هذه الدولة الإفريقيّة أو تلك وأن يقنعها باستقبال ممثّل لأداة اسمها “بوليساريو” غير مدرك لمخاطر استخدام مثل تلك الأداة على الأمن والاستقرار ومكافحة الإرهاب والتطرّف في منطقة شمال إفريقيا ومنطقة الساحل.

الأكيد أنّ ما يريد العرب الواعون سماعه من قمّة الجزائر هو خطاب مختلف تماماً عن تلك اللغة الخشبية التي يعتمدها نظام عسكري لم يستطع في يوم من الأيّام أن يكون نظاماً طبيعياً متصالحاً مع شعبه ومع محيطه المباشر. لم يستطع أن يكون نظاماً ينجح في لمّ الشمل الجزائري والشمال إفريقيّ قبل أن يلمّ الشمل العربي.

مواضيع ذات صلة

من 8 آذار 1963… إلى 8 كانون 2024

مع فرار بشّار الأسد إلى موسكو، طُويت صفحة سوداء من تاريخ سوريا، بل طُويت صفحة حزب البعث الذي حكم سوريا والعراق سنوات طويلة، واستُخدمت شعاراته…

سوريا: عمامة المفتي تُسقط المشروع الإيرانيّ

عودة منصب المفتي العام للجمهورية السوريّة توازي بأهمّيتها سقوط نظام بشار الأسد. هو القرار الأوّل الذي يكرّس هذا السقوط، ليس للنظام وحسب، بل أيضاً للمشروع…

فرنسا على خط الشام: وساطة مع الأكراد ومؤتمر دعم في باريس

أنهت فرنسا فترة القطيعة التي استمرّت اثنتي عشرة سنة، مع وصول البعثة الفرنسية إلى العاصمة السورية، دمشق. رفعت العلم الفرنسي فوق مبنى سفارتها. لم تتأخر…

تركيا في الامتحان السّوريّ… كقوّة اعتدال؟

كان عام 2024 عام تغيّر خريطة الشرق الأوسط على أرض الواقع بعيداً عن الأوهام والرغبات التي روّج لها ما يسمّى “محور الممانعة” الذي قادته “الجمهوريّة…