لم يصل إلى نتيجةٍ الصراخُ الشعبي والسياسي الذي رافق مفاوضات ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل، وصولاً إلى توقيع اتفاق الترسيم. فالمفاوضات كانت تجري داخل قنوات معزولة كليّاً عن أيّ آليّة ديموقراطية ضمن النظام. والمشكلة ليست في أنّ الاتفاق لم يُعرَض على البرلمان، لكن في عدم إصدار أيّ جهة دستورية أو قضائية أيّ رأي في ضرورة عرض الاتفاق على السلطة التشريعية أو عدم عرضه، على خلاف ما حصل في إسرائيل، حيث رافق المفاوضات جدلٌ دستوري وقانوني حول إلزاميّة عرض الاتفاق أو عدمه على البرلمان. وفي حال عرضه عليه، فهل هو ملزمٌ بالتصويت عليه أم يكتفي بالاطّلاع عليه وحسب؟ هذا فضلاً عن الجدال الذي دار في إسرائيل حول وجوب إجراء استفتاء شعبي بشأن الاتفاق.
غياب البرلمان والجيش
هذا كله لم يحصل شيءٌ منه في لبنان. كأنّ البرلمان غير موجود أو غير معنيّ من قريب أو بعيد باتفاق بهذه الأهميّة. حتّى إنّه لم يحصل نقاش دستوري جدّيّ في ما إذا كان يجب إحالة الاتفاق على البرلمان أو لا، فضلاً عن التصويت عليه من عدمه. واللافت أيضاً أنّ المؤسّسة العسكرية والأمنيّة الإسرائيلية كانت طرفاً أساسياً في الاتفاق، بينما في لبنان استُبعد الجيش اللبناني عن المفاوضات أو اقتصر دوره على استشارات معيّنة، لكنّه لم يكن حاضراً بالفعل طوال مدة المفاوضات. وهذا فيما قال الإسرائيليون إنّ الاتفاق حقّق مصالح أمنيّة لإسرائيل، وهو ما كان يَفترض حضوراً واضحاً للجيش اللبناني في مسار المفاوضات ما دام الاتفاق يتضمّن جانباً أمنيّاً، غير أنّ شيئاً من ذلك لم يحصل أيضاً.
والحال أنّ الجيش الإسرائيلي أعطى طابعاً أمنيّاً للمفاوضات نظراً إلى تهديدات حزب الله. ولذلك التزمت المؤسّسة السياسية الإسرائيلية بتوجيهاته في توقيع الاتفاق، خشية وقوع حرب. أي أنّ الدافع الأمني للمفاوضات كان يمكن أن يقلّص الاعتبارات الديموقراطية بشأن الاتفاق داخل إسرائيل نظراً إلى الطابع العسكري لدولة الاحتلال. ومع ذلك استمرّ الجدال الديموقراطي بخصوص الاتفاق حتّى توقيعه.
أدار أركان النظام، وخاصة ثنائية حزب الله والتيار الوطني الحر، لعبة إعلامية مفضوحة هدفت إلى إغفال المهمّ الذي لا يمكن إغفاله، وركّزت على الأقلّ أهميّة، في مسار المفاوضات والتوقيع
أمّا في لبنان فلو أتيح للجيش حضور أكبر وأفعل في مسار المفاوضات، لكان اللبنانيون وثقوا بالاتفاق، لكنّ الطريقة التي جرت فيها المفاوضات والتوقيع عليه أرخت وسترخي دائماً ظلالاً من الشكّ على طبيعته وطبيعة المكتسبات التي حقّقها للبنان مقابل تلك التي حقّقها لإسرائيل. وما حصل عليه لبنان جرّاء الاتفاق وفي هذا التوقيت بالذات هل هو أقصى الممكن، أو أنّ ما جرى كان نتيجة تقاطعات إقليمية ودولية حقّقت مصالح سياسيّة لأطرافه بغضّ النظر عن مقياس المصلحة الوطنية للبنان؟
أركان نظام الغموض
لكن على الرغم من كلّ الالتباس والغموض اللذين رافقا الاتفاق بصورة دائمة، فإنّ أركان الحكم في لبنان، وعلى رأسهم رئيس الجمهورية المنتهية ولايته، لم يجدوا أيّ ضرورة لتوضيح هذين الغموض والالتباس في مواجهة كلّ الصراخ الشعبي والسياسي والصحافي. حتّى إنّهم لم يعرضوا الاتفاق على البرلمان، أقلّه لحماية أنفسهم من النقد والتشكيك وحتّى التخوين. فهُم يشعرون بحصانة سياسية مطلقة، ليس نتيجة الثقة الشعبية بهم، بل لأنّ حزب الله وفّر لهم الغطاء السياسي طوال المفاوضات وصولاً إلى توقيع الاتفاق.
في المقابل أدار أركان النظام، وخاصة ثنائية حزب الله والتيار الوطني الحر، لعبة إعلامية مفضوحة هدفت إلى إغفال المهمّ الذي لا يمكن إغفاله، وركّزت على الأقلّ أهميّة، في مسار المفاوضات والتوقيع. لقد حيّدوا مضمون الاتفاق عن أيّ قنوات ديموقراطية يتيحها النظام السياسي، وحرصوا على إطلاق بروبغندا تظهر أنّ المفاوضات والاتفاق نصر مبين، وخاليان من أيّ شبهة تطبيع مع الكيان الإسرائيلي. ركزوا على أن عيون الوفدين لم تلتقِ، وسُرِّب أنّ الرئيس المنتهية ولايته أوصى أعضاء الوفد اللبناني إلى الناقورة بألّا تقع عيونهم في عيون أعضاء الوفد الإسرائيلي. فلماذا لم يقترح أيّ من أركان الحكم، وخصوصاً فريق الرئيس، أن يذهب أعضاء الوفد اللبناني معصوبي العيون إلى الناقورة؟!
يحصل هذا، فيما اعتبر الجانب الإسرائيلي على لسان رئيس الحكومة يائير لابيد – بعدما أكّد أنّ الاتفاق لا يحقّق له مصالح اقتصادية فحسب، بل أمنيّة أيضاً – أنّ الاتفاق حقّق اعترافاً لبنانياً بدولة إسرائيل. وهذا كلامٌ يعطي شرعية لتشكيك اللبنانيين في طبيعة الاتفاق، خصوصاً أنّه حصل خارج أيّ مساءلة ديموقراطية، بل إنّ أركان الحكم حرصوا على ألّا يحصل أيّ نوع من هذه المساءلة بحجج ذاتية لا بمسوّغات صادرة عن جهات دستورية أو قضائية مستقلّة.
يُظهر مسار المفاوضات عطالة القنوات الديمقراطية في النظام السياسي اللبناني، بحيث أصبح من المحال الحديث عن نظام ديموقراطي في لبنان
نظام الحزب الواحد
ويُظهر مسار المفاوضات عطالة القنوات الديمقراطية في النظام السياسي اللبناني، بحيث أصبح من المحال الحديث عن نظام ديموقراطي في لبنان. والأخطر أنّ هذا التعطيل ليس نتيجة الصراع السياسي في البلد، بقدر ما يفرضه تحكّم حزب الله بالعملية السياسيّة. أي أنّ الحزب عينه أصبح عنوان التناقض الرئيسي مع الديموقراطية في النظام السياسي. وذلك على غرار ما كانت الجيوش في الأنظمة الاستبدادية العربية، مع فارق أنّ النظام اللبناني في نصوصه ومساره الاجتماعي التاريخي أكثر تصالحاً مع فكرة الديموقراطية وأكثر قابلية لترجمتها.
وهذا أحد وجوه الأزمة اللبنانية العميقة والبنيوية. فالممارسة السياسية للحكم أصبحت على نقيض تامٍّ مع جوهر الدستور وحواضنه الاجتماعية الرئيسية التي كانت تطمح إلى ديمقراطيّة سياسية. ولذلك يتخذ الصراع في لبنان طابعاً ديموغرافياً لا من الناحية الطائفية البحت، لكن من ناحية تهميش الفئات الاجتماعية التي تتطلّع إلى ترجمة المضمون الديموقراطي للدستور. وساهم الانهيار الاقتصادي في تحييد هذه الفئات ودفعها إمّا إلى الهجرة أو إلى الصفوف الخلفية من المسرح السياسي، ولم تعد قادرة على تشكيل قوّة سياسيّة مؤثّرة، خصوصاً في ظلّ تطويع النظام السياسي بدءاً من قانون الانتخابات.
بيد أنّ الخطر الأكبر أنّ التشويه الممنهج للنظام السياسي وللممارسة السياسية يتيح لأركان الحكم، وعلى رأسهم حزب الله، تحويل القضايا الوطنية الرئيسية، كاتفاق الترسيم، إلى قضايا سياسيّة تخدم أجندتهم الخاصّة في تكريس نفوذهم وممارسة الغلبة على خصومهم. وهذا ما يضع لبنان “رسميّاً” في صلب منظومة الممانعة التي تقوم ديناميّتها الأصليّة على بناء نظام سياسي وأمنيّ وإعلامي يمكنها من إدارة صراع بالوكالة مع إسرائيل، وفق حسابات تضمن ديمومتها وديمومة تبعيتها. أي أنّ الصراع مع إسرائيل وظائفي، وغايته الفعلية الاستقواء على الداخل اللبناني، والسيطرة على المسرح السياسي والاجتماعي، وقمع أيّ معارضة جدّيّة بغضّ النظر عن المقتضيات المبدئية لهذا الصراع.
إقرأ أيضاً: ميشال عون: ثأر للمسيحيين فدمّرهم ودمر لبنان
لذلك يجب أن تتخذ المعركة السياسية ضدّ منظومة الحكم في لبنان معاني سياسيّة هدفها الكشف عن تعطيل الآليّات الديموقراطية للنظام السياسي ومقاومة تعطيلها. وعلى المعارضة ألا تتعاطى مع هذا التعطيل كما لو أنّه مرحليّ ومرتبط حصراً بانتخابات الرئاسة. فتعطيل الديموقراطية لا يمكن عزله عن المستقبل السياسي والاجتماعي للبنان على المدى البعيد.