ميشال عون: ثأر للمسيحيين فدمّرهم ودمر لبنان

مدة القراءة 7 د

لا يشبه الرئيس ميشال عون، بالمعنى السياسي، أيّاً من الرؤساء الياس الهراوي أو إميل لحود أو ميشال سليمان. كأنّ انتخابه رئيساً للجمهورية في 31 تشرين الأول 2016 هو قفزٌ فوق كلّ رؤساء ما بعد الطائف، ما خلا الرئيس رينيه معوّض الذي لم يحكم. أي كأنّ انتخابه امتدادٌ لتعيينه رئيساً للحكومة الانتقالية في 22 أيلول 1988 من قبل الرئيس أمين الجميّل. هكذا حكم ميشال عون، ولو على نحو موارب، رئيساً من الجمهورية الأولى في الجمهورية الثانية.

السمة الأبرز لـ “جمهورية الوصاية السورية” كانت في التحييد السلبيّ للصراع الطائفي على السلطة المستمدّ من الجمهورية الأولى، وبالتحديد من خلال إخراج المسيحيين من اللعبة السياسية بعدما كانوا طوال الجمهورية الأولى اللاعب الرئيسي فيها

تعطيل جمهوريتين 

لكنّ وصوله إلى الرئاسة كان نتيجة مسارات الجمهورية الثانية وتحوّلاتها. ولعلّ تحوّلها الأهمّ قد حصل لحظة انسحاب القوات السورية من لبنان في 24 نيسان عام 2005. قبل ذلك التاريخ كان الحكم السوري للبنان قد عطّل الجمهورية أو هو أنتج جمهورية من نوع خاص. فلا هي الجمهورية الأولى ولا الثانية، بل بينَ بين، وحسب مصلحته.

لعلّ السمة الأبرز لـ “جمهورية الوصاية السورية” كانت في التحييد السلبيّ للصراع الطائفي على السلطة المستمدّ من الجمهورية الأولى، وبالتحديد من خلال إخراج المسيحيين من اللعبة السياسية بعدما كانوا طوال الجمهورية الأولى اللاعب الرئيسي فيها.

هكذا فتح خروج القوات السورية من لبنان الطريق أمام عودة الطوائف إلى ممارسة صراعها التاريخي على السلطة. ولذلك كان هذا الخروج البداية الحقيقية للجمهورية الثانية التي بدا سريعاً أنّها مثقلة بموروثات الجمهورية الأولى، ولا سيّما أنّ عودة ميشال عون في أيّار 2005 وفوزه الكاسح مسيحيّاً في انتخابات العام 2005 حوّلاها إلى مسرح لانتقام المسيحيين، من خلال زعامة ميشال عون، لخسارتهم مكاسب الجمهورية الأولى. والمفارقة أنّ هذا الانتقام كان يحصل في لحظة تصاعد تدريجيّ وخطير للصراع السنّي – الشيعي في لبنان والمنطقة.

مكيافيلّي القصر

ميشال عون ابن الجمهورية الأولى، وتحديداً ابن مؤسّستها العسكرية التي كانت إحدى ركائز “النظام الماروني” قبل الحرب، ولا سيّما منذ عهد الرئيس فؤاد شهاب. ولا تعوزه الخبرة لتوظيف الأدوات السياسيّة والإعلامية اللازمة لكسب معركته بمعزل عن معايير الشرّ والخير. حتّى إنّه حوّل هزيمته العسكرية في 13 تشرين الأول عام 1990 إلى ذكرى تأسيسية لتيّاره كما لو كانت انتصاراً. فالهزيمة في قاموس التيّار ليست هزيمة بل مؤامرة كونية وخيانة داخلية.

هذا الأسلوب المكيافيلّي في السياسة العونية ارتكز على خيار سياسي واضح لدى ميشال عون، وهو التحالف مع “محور الممانعة” وممثّله الأبرز في لبنان: حزب الله. أي أنّ تحالف عون مع الحزب لم يكن خيار الضرورة أو الإكراه، بل خيار المصلحة والرهان. بمعنى أنّ عون راهن على صعود حزب الله في لبنان بعد خروج القوات السورية منه، وهو كسب هذا الرهان الذي سقط على طريق تحقيقه ضحايا كثيرون، بل سقطت الدولة نفسها في لجّة الانهيار والتفكّك.

والأمر نفسه يتكرّر الآن، إذ إنّ خروج عون من قصر بعبدا هو بالنسبة إلى العونيين انتصارٌ لا لأنّ العهد انتهى بتوقيع اتفاق الترسيم البحري مع إسرائيل بوصفه “إنجازاً تاريخياً”، بل لأنّ عون صمد في وجه “المؤامرة الكونية” ضدّه ولم يتنازل أمام خصومه في الداخل. وهذا كلّه، حتّى لو حصل في العهد العوني، أسوأ انهيار اقتصادي لدولة في العالم منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر.

فتح خروج القوات السورية من لبنان الطريق أمام عودة الطوائف إلى ممارسة صراعها التاريخي على السلطة. ولذلك كان هذا الخروج البداية الحقيقية للجمهورية الثانية التي بدا سريعاً أنّها مثقلة بموروثات الجمهورية الأولى

عون الثأري

الخطاب والسلوك العونيّان هذان ليسا وحدهما اللذين يفسّران تجربة عون، بل هما من أدوات زعامته التي بُنيت على قاعدة الثأر السياسي للمسيحيّين الذين خسروا “حقوقهم” في الجمهورية الثانية بعدما كانوا “حكّام” الجمهورية الأولى. فإن لم يكن في الإمكان إسقاط الجمهورية الثانية فالأَوْلى تحويلها وتهجينها، فلا تكون جمهورية أولى ولا ثانية ولا ثالثة، بل هي مزيج من هذه الجمهوريات كلّها، بحيث لا يموت القديم ولا يُخلق الجديد. وهذا بناء في توازن كارثي أدّى إلى المأساة اللبنانية الحالية.

لكنّ هذه الاستراتيجية العونية الهجومية التي لا تكلّ، لا تستند إلى مواصفات عون الشخصية فحسب، بل ترتكز على حساسيّات مسيحية، سياسية واجتماعية واقتصادية، عرف عون أن يستثمرها ويعزف على أوتارها إلى أقصى الحدود، من دون أيّ روادع أو كوابح. حتّى إنّه تحوّل منذ عودته من فرنسا في العام 2005 إلى ثالث الزعماء الموارنة بعد الرئيسين بشارة الخوري وإميل إدّه، من حيث امتداد زعامته على كامل الجغرافيا المسيحية، ومن حيث تحلُّق العصب الديني والاقتصادي والإداري للمسيحيين من حوله. وقد بلغ هذا التحلُّق أوجه لحظة فوزه بالانتخابات في 2005 بوجه “التحالف الرباعي”، حين وصفه بـ”التسونامي”، وصولا إلى لحظة انتخابه رئيساً، قبل أن يتقهقر لاحقاً مع بدء الانهيار، لكن من دون أن يتلاشى كليّاً.

هنا ثمّة أمرٌ مشترَك بين عون والخوري، وذلك أنّ الرجلين اتّخذا خيارين معاكسين للتيار المسيحي التاريخي، كلّ بحسب زمانه. فبشارة الخوري “انقلب” على الخيار الفرنسي التاريخي للموارنة الذين رأوا فيه ضمانة لهم في لبنان الكبير، فتخلّى، في لحظة ضعف فرنسا من جرّاء الحرب الثانية، عن الحماية الفرنسية واستعاض عنها، بدفعٍ بريطاني، بتحالف سياسي داخلي مع الزعيم السنّيّ العروبي رياض الصلح، باعتبار أنّ “لبننة” المسلمين تنفي ضرورة هذه الحماية الفرنسية، ولا سيّما أنّ إحدى وظائف “الميثاق الوطني” كانت تأمين مظلّة عربية، وبالأخصّ سوريّة، للجمهورية المستقلّة.

مسار موارب

أمّا عون فقد سلك مساراً موارباً بين اللعب على النزعة الأقلّوية التاريخية للمسيحيين وبين الانقلاب على التوجّه الرئيسي للمسيحيين ضدّ النظام السوري والمستمرّ منذ نهاية السبعينات. هذا أدّى إلى تحالف بين عون وحزب الله، أوجد له “الجنرال” مبرّرات وسرديّة “مشرقية” أقنعت شريحة واسعة جداً من المسيحيين، أقلّه إلى حين وقوع الانهيار على رأسهم قبل غيرهم. وقد ارتكز عون في تبرير تحالفه هذا على خطاب يحمّل السُنّة مسؤولية الاستيلاء على “حقوق” المسيحيين، ثمّ في مرحلة لاحقة مع بداية الحرب في سوريا أخذ يروّج لنظرية دور حزب الله في حماية المسيحيين في المنطقة.

بيد أنّ “الجنرال” لعب في تحالفه مع الحزب وخطابه لتبريره على أمرين:

– الأوّل: هو اتّهام السنّيّة السياسيّة بالاستحواذ على صلاحيات المسيحيين ودورهم في النظام.

– والثاني: هو التحالف مع الطرف الأقوى داخليّاً، أي حزب الله، لاسترجاع هذا الدور وهذه الصلاحيّات. وهو استفاد هنا حكماً من الصراع السنّيّ – الشيعي.

إقرأ أيضاً: الحزب عالق بين فرنجيّة وباسيل

بذلك يكون عون قد عكس استراتيجية الرئيس فؤاد شهاب لإضعاف زعماء الموارنة التقليديين، التي حصلت بـ”تواطؤ” إسلامي لا لبس فيه. أي أنّ المسلمين لم يحبّوا شهاب نظرًا إلى برنامجه الإصلاحي والإنمائي، بقدر ما أحبّوه لأنّه ضدّ الزعماء الموارنة. أما عون فاستعان بتحالفه مع طرف مسلم، هو حزب الله، لتقوية زعامته المسيحية وتثبيتها وصولاً إلى انتخابه رئيساً للجمهورية. وهذه استراتيجية لن يتخلّى عنها أبداً وريثه جبران باسيل الذي يسعى إلى بناء هندسة جديدة لهذا التحالف، وبالتالي للحكم الجديد بعد انتخاب خلف لعون.

هكذا يكون “الجنرال” قد أعطى بعداً شيعيّاً للزعامة المارونية وبعداً شيعيّاً أيضاً لرئاسة الجمهورية. وها ما سيستمرّ مع باسيل، سواء انتُخب رئيساً أو دعم رئيساً غيره، وإن لم يكن قادراً على بناء زعامة مسيحية بقوّة زعامة عمّه. فهذه الثنائية المارونية – الشيعية ما تزال العنوان الأبرز في الجمهورية الثانية ولو ضدّ الجمهورية الثانية.

مواضيع ذات صلة

قنوات مفتوحة بين قائد الجيش و”الثّنائيّ الشّيعيّ”

في آخر موقف رسمي من الانتهاكات الإسرائيلية اليومية والفاضحة لقرار وقف إطلاق النار تكرار رئيس الحكومة نجيب ميقاتي “لفت نظر” لجنة المراقبة لوجوب وقف هذه…

“اللقاء الديموقراطي” يدعم التوافق على جوزف عون

أقلّ من 25 يوماً تفصل عن موعد الاستحقاق الرئاسي. حراكٌ في مختلف الاتّجاهات، وتشاورٌ على كلّ المستويات. الشغل جدّي لإجراء الانتخابات يوم التاسع من كانون…

سفراء الخماسيّة “أسرى” جلسة الرّئاسة!

لا صوت يعلو فوق صوت “مطحنة” الأسماء المرشّحة لرئاسة الجمهورية. صحيح أنّ الرئيس نبيه برّي يتمسّك بتاريخ 9 كانون الثاني بوصفه المعبر الإلزامي نحو قصر…

سليمان فرنجيّة: شريك في رئاسة “قويّة”

من يعرفه من أهل السياسة أو من أهل الوسط يصفونه بفروسيّته ربطاً بأنّه يثبت على مبدئه مهما طال الزمن ومهما تقلّبت الظروف. سليمان فرنجية الحفيد…