بكلّ المقاييس، لا يمكن تسخيف أو تحجيم التوقيع اللبناني-الإسرائيلي بوساطة أميركية على اتفاقية ترسيم الحدود البحرية جنوباً بعد مسار طويل ومُرتبك ومدجّج بتساؤلات مشروعة حول أسباب تقصير السلطة في لبنان منذ عقود في بتّ ملف بهذه الأهمية الاقتصادية والجيوسياسية والأمنية في لبنان والمنطقة.
تاريخية اللحظة ونقطة التحوّل التي “رسّمها” الترسيم البحري مع إسرائيل للأجيال المقبلة و”الحكّام بأمرها” في لبنان لم تحجب التركيز على الشكليات. فحتّى الساعات الفاصلة عن وصول آموس هوكستين إلى قصر بعبدا بقيت تركيبة الوفد اللبناني إلى الناقورة غامضة وهويّة الطرف الموقّع على الاتفاقية غير مُعلن عنها.
كعادته في التسريبات الإعلامية تقصّد النائب الياس بو صعب الايحاء بأنّ الاتفاق على هويّة وفد الناقورة حصل خلال العشاء في منزله في الرابية بحضور الموفد الأميركي آموس هوكستين، “إضافة إلى تفاصيل مشهد الناقورة”. ووصل الأمر إلى حدّ نشره تعليقاً “مباشراً” من الناقورة على “تويتر” عن “موقف مشرّف اتّخذه الوفد اللبناني لدى وصوله إلى الناقورة”، ليتبيّن لاحقاً رفض الوفد اللبناني دخول المقرّ العام لقيادة “اليونيفيل” قبل انسحاب زوارق الجيش الاسرائيلي التي اخترقت المياه اللبنانية.
تعمّدت دوائر القصر الجمهوري تسريب صورة “مقرّبة” لتوقيع الرئيس عون على الرسالة التي تحمل موافقة لبنان على مضمون الرسالة الأميركية حول نتائج المفاوضات
فعليّاً، كَمَنَ كل الموضوع في التفاصيل الشكلية. فرئيس الجمهورية عاد ووقّع شخصياً على اتفاق كانت تصريحات سابقة له قد نفت احتمال حدوثه، حين صدر بيان لرئاسة الجمهورية في تشرين الثاني 2020 يشير إلى “إبلاغ عون الأمم المتحدة أنّ ترسيم الحدود البحرية يتمّ على أساس الخط الذي ينطلق برّاً من نقطة رأس الناقورة استناداً إلى مبدأ الخط الوسطي بلا احتساب لجزيرة تيخيليت الاسرائيلية” (أي الخط 29).
توقيع ميشال عون
في المقابل تعمّدت دوائر القصر الجمهوري تسريب صورة “مقرّبة” لتوقيع الرئيس عون على الرسالة التي تحمل موافقة لبنان على مضمون الرسالة الأميركية حول نتائج المفاوضات غير المباشرة للترسيم. وهذا تأكيد، وفق أوساط بعبدا، على أنّ “ما قام به رئيس الجمهورية لم يَمسّ الحدود البريّة ولم يعترف لبنان بخط الطفّافات عام 2000 ولم يُطبّع مع اسرائيل. وما حصل إنجاز تاريخي نفتخر به وستفتخر به كل الأجيال بعدما استعدنا 860 كلم مربعاً كانت موضع نزاع، فيما لم يتنازل لبنان عن كيلومتر واحد لإسرائيل، إضافة إلى استحصاله على كامل حقل قانا من دون أيّ تعويض من قبل لبنان على الرغم من عدم وجود كامل الحقل في المياه اللبنانية”.
أمّا لناحية أعضاء الوفد الذي لم يتماهَ مع تركيبة الوفد الاسرائيلي فسُجّلت ملاحظات أساسية تجلّت في عدم مشاركة الجيش مباشرة في الوفد من خلال ضابط يمثّل قيادة الجيش. إذ إنّ حضور العميد منير شحادة ضمن وفد الناقورة، وفق مصدر مطّلع، “لم يكن على مستوى تمثيله قيادة الجيش بل بحكم وظيفته في مكان اللقاء وموقعه كمفوّض الحكومة لدى “اليونيفيل” في الجنوب، وحضوره طبيعي على المستوى اللوجستي والتنسيقي”.
حتى النائب وليد جنبلاط غرّد أمس متسائلاً عن “سبب تغييب الجيش عن إبرام الاتفاق حول الترسيم الذي يثبّت الهدنة؟”.
ما يجدر ذكره في هذا السياق أنّ قائد الجيش كان اتخذ قراراً مفاجئاً، باقتراح منه وبتوقيع وزير الدفاع، في كانون الأول 2021، بـ”نقل” العميد شحادة من المحكمة العسكرية ووضعه بتصرّف القيادة بعد نحو خمسة أشهر فقط من تعيينه في موقعه في أيار 2020، وهو ما شكّل سابقة غير مألوفة في تاريخ المحكمة العسكرية. وفي 8 نيسان 2022 جرى تعيينه بمنصب مفوّض الحكومة لدى قوات الطوارئ الدولية.
كما أُثيرت تساؤلات أمس عن أسباب تعيين رئيس مركز الاستشارات القانونية في وزارة الخارجية أحمد عرفة في عداد الوفد، فيما تردّدت معلومات عن أنّ وجوده ضمن الوفد أتى بطلب أميركي مباشر.
يُذكر أنّ الوفد اللبناني إلى الناقورة تألّف من كلّ من: المدير العام لرئاسة الجمهورية أنطوان شقير، مفوّض الحكومة لدى قيادة “اليونيفيل” العميد منير شحادة، وعضو هيئة إدارة قطاع النفط وسام شباط، وأحمد عرفة. فيما تألّف الوفد الاسرائيلي من أعضاء في وزارتَيْ الطاقة والخارجية ومجلس الأمن القومي.
انتقل الوفدان بعد ظهر أمس إلى الناقورة على متن طوافات عسكرية لتسليم رسالتين توثّقان موافقة لبنان وإسرائيل على الاتفاق تمهيداً لإيداعهما الأمم المتحدة.
ثمّة فريق لا يزال حتى الآن يضع كبار الرؤوس السياسية والحزبية في قفص الاتهام بالتغاضي عن إمكانية تحصيل لبنان ما لا يقلّ عن 1,400 كلم مربع
“خُردة” نفطيّة!
27 تشرين الأول 2022 لن يكون يوماً عادياً بعد الآن في بلد تعصف به الأزمات إلى حدّ الانهيار الكامل لمقوّمات ما يُسمّى دولة. أزماتٌ حوّلته إلى “خُردة” شاءت الإرادة الدولية وتقاطع المصالح أن تصنع منها “إنجازاً نفطياً” صفّق له لبنان والعدو الاسرائيلي في آن معاً وبالزخم نفسه. لكن شابته يوم أمس تأكيدات اسرائيلية استفزازية أنّ لبنان سلك، من خلال الاتفاق، درب التطبيع مع اسرائيل، وأنّ استخراج الغاز من كاريش لا علاقة له بتوقيع اتفاق الترسيم البحري مع لبنان.
أما “رئيس الوفد المفاوض” في الأسابيع الأخيرة، نائب رئيس مجلس النواب، وممثل رئيس الجمهورية، القريب من الرئيس برّي وحزب الله، النائب الياس بوصعب، فقال من بعبدا التالي: “منذ صغري وأنا أسمع باتفاقات ابراهام… اليوم صار بإمكاني القول إن هناك اتفاقات هوكستين”. هكذا استحضر “اتفاقات ابراهام”، التي تعني في اللغة السياسية المعاصرة “التطبيع مع إسرائيل”، ومن على منبر قصر بعبدا. ورأى كثيرون أنّ هذا الموقف يتماهى مع ما أعلنه وزير الخارجية الاميركي انتوني بلينكن بأنّ “الاتفاقية التاريخية الحقيقية بين لبنان وإسرائيل هي وسيلة لتحقيق السلام والاستقرار السمة الدائمة للعلاقة وليس الصراع”.
فعليّاً، ثمّة فريق لا يزال حتى الآن يضع كبار الرؤوس السياسية والحزبية في قفص الاتهام بالتغاضي عن إمكانية تحصيل لبنان ما لا يقلّ عن 1,400 كلم مربع كان يمكن أن توسّع بيكار استفادته من الثروة النفطية والغازية الكامنة في الحقول اللبنانية.
إقرأ أيضاً: الترسيم مع سوريا… أصعب من إسرائيل
وفيما تزعّم الجيش هذا الفريق لمرحلة معيّنة بعد “اكتشافه” للخط 29 ووضعه على طاولة مفاوضات الناقورة بين تشرين الاول 2020 وأيار 2021 واعتباره الخط 23 ساقطاً، فقد جاء الردّ الأوضح أمس من جانب جبران باسيل على قيادة الجيش من خلال ما نشرته الزميلة “الأخبار” حول تلقّي قائد الجيش العماد جوزف عون اتصالاً من قائد القيادة الوسطى الأميركية دفعه في حزيران الماضي إلى “إعلان انتهاء المهمة التقنية للجيش في ملف الترسيم، والوقوف خلف السلطة السياسية في أيّ قرار تتّخذه”.
أمس لم يصدر بيان من قيادة الجيش ينفي أو يوضح معلومة جريدة “الأخبار”. لكن المؤكّد أنّ ما سُرّب في الإعلام يعكس حجم خطوط التوتّر العالي بين باسيل وقائد الجيش على مسافة أيام قليلة جداً من نهاية العهد واحتدام معركة الانتخابات الرئاسية.