تواجه ألمانيا أمرين متناقضين في وقت واحد: ارتفاع حدّة الأصوات ضدّ الهجرة خوفاً على النسيج الاجتماعي – القومي الألماني، وانخفاض نسبة اليد العاملة التي يحتاج إليها الاقتصاد الأوّل في أوروبا.
يتمثّل الدليل على الأمر الأوّل في التصريح الذي أدلى به زعيم المعارضة في البرلمان الألماني فريديريك ميرز وقال فيه إنّ “المهاجرين الأوكرانيين ليسوا سوى سيّاح اجتماعيين يحاولون استغلال المساعدات التي تقدّمها لهم الدولة الألمانية”.
ويتمثّل الدليل على الأمر الثاني في الأرقام والإحصاءات التي قامت بها مؤسسات الدراسات الألمانية الرسمية، والتي تقول إنّ ألمانيا تعاني الآن من وجود 1.93 مليون مركز فارغ في المؤسّسات الصناعية والزراعية، أي بزيادة 66 في المئة عمّا كان عليه الأمر في العام الماضي.
عجز ألماني عن توفير اليد العاملة
وتؤكّد هذه الدراسات أيضاً أنّ 49.7 في المئة من الشركات الألمانية تعجز عن إيجاد الأيدي العاملة المحترفة، أي بزيادة 30 في المئة عمّا كان عليه الأمر في عام 2019.
على الرغم ممّا تشير إليه هذه الأرقام من خطورة، فإنّ الخطر الأكبر يتمثّل في الاعتقاد بأنّ استمرار الوضع الحالي على ما هو عليه سوف يؤدّي في المستقبل القريب إلى تراجع حجم اليد العاملة في ألمانيا إلى ما بين 15 و16 مليوناً في عام 2060. فماذا سيحلّ بالاقتصاد الألماني؟؟
في الوقت الحاضر يشكّل المهاجرون إلى ألمانيا ربع العاملين في أقسام الطبّ والعلوم في الجامعات
لمنع وقوع هذه الكارثة تفكّر ألمانيا منذ الآن في ثلاثة حلول في وقت واحد:
1- توسيع مجالات العمل أمام المرأة.
2- زيادة عدد ساعات وأيام العمل للرجال ورفع سنّ التقاعد.
3- فتح أبواب الهجرة وتسهيل إجراءات الاستيعاب.
لكنّ دون ذلك عقبات وعواقب. فالتجربة الألمانية باستقدام يد عاملة من تركيا بعد الحرب العالمية الثانية، نجحت اقتصادياً وفشلت اجتماعياً. والتجربة التي قامت بها المستشارة السابقة أنجيلا ميركل في عام 2015 مع المهجّرين السوريين اصطدمت بعراقيل سياسية واجتماعية واسعة النطاق كادت تطيح بميركل.
اعتمدت ميركل في تسهيل إجراءات الهجرة على أرقام دراسية تعكس حاجة الاقتصاد الألماني إلى اليد العاملة، حاضراً ومستقبلاً. فالدراسات الرسمية تؤكّد أنّه مقابل كلّ مئة عامل ألماني ممّن تراوح أعمارهم بين 50 و54 عاماً، هناك 56 عاملاً فقط لخلافتهم في المستقبل. فمن أين وكيف ستملأ ألمانيا هذا الفراغ؟
المتغيرات الاجتماعية والإثنية تتحكم بألمانيا
هذه المشكلة الديمغرافية موجودة أيضاً في بقية الدول الأوروبية، لكن على نطاق أضيق، حيث تبلغ النسبة 72 و74 مقابل كلّ مئة يد عاملة أوروبية في الوقت الحاضر.
من هنا قد ينخفض عدد السكان بنسبة 25 في المئة خلال الأربعة عقود المقبلة، ويصل إلى 65 مليوناً فقط، من دون فتح أبواب الهجرة إلى ألمانيا. أمّا عدد السكان حالياً فهو 85 مليوناً.
في الوقت الحاضر يشكّل المهاجرون إلى ألمانيا ربع العاملين في أقسام الطبّ والعلوم في الجامعات.
وتزيد نسبة المهاجرين من الهند، الذين يتبوّأون مراكز اختصاصية أو جامعية، على 58 في المئة. أمّا عمّال المطاعم والمقاهي والتنظيفات فـ35 في المئة منهم لم يولدوا في ألمانيا.
تشير هذه الأرقام إلى المدى الذي وصلت إليه المتغيّرات الاجتماعية والإثنيّة في ألمانيا. وهي متغيّرات تفرضها الحاجة التنموية والاقتصادية، وتعارضها مشاعر التمسّك بالهويّة الألمانية وبمبدأ تقدّم العنصر الجرماني على العناصر الأخرى التي تتمتّع بحقوق المواطنة.
في عام 1992 استقدمت ألمانيا فور استعادة الوحدة بين شطرَيْها الشرقي والغربي، يداً عاملة من فيتنام للعمل في مشاريع البناء في القسم الشرقي المسترجَع. تعلّم الفيتناميون اللغة الألمانية واندمجوا في المجتمع وأصبحوا مواطنين. إلا أنّ أشكالهم وراثياً لم تتغيّر، ولم يتغيّر التعامل معهم كغرباء يحملون الجنسية الألمانية، شأنهم في ذلك شأن الأتراك الذين استُقدموا للعمل بعد الحرب العالمية الثانية.
إقرأ أيضاً: فقراء العلماء “يسرقون” لتمويل اكتشافاتهم؟
ثلاثة أمور تُخفف من حجم تضخّم أرقام الهجرة إلى ألمانيا:
1- زيادة عدد المواليد.
2- زيادة عدد ساعات العمل.
3- رفع سنّ التقاعد.
إلا أنّ هذه الأمور الثلاثة تتناقض عائليّاً واجتماعياً، وتتناقض مع الإيمان بالأولويّة العنصريّة المتأصّلة في تكوين الشخصيّة الألمانية.