نجح الرئيس التركي رجب طيب إردوغان وهو يستقبل الفصل الأخير من العام 2022 في إبقاء حزبه في قلب المشهد بفضل براغماتيّة بارزة في الالتفاف على مشاكل الداخل والخارج. وها هو يستعدّ للإعلان عن “رؤية العصر” لتكون الشعار الأوّل في معركة حزبه الانتخابية كما نتوقّع.
الهدف هو أبعد من معايشة العام 2023 الذكرى المئوية الأولى لإعلان الدولة التركية الحديثة، بل مواصلة الطريق نحو بناء تركيا التي عليها أن تستعدّ للعام 2071 تاريخ مرور الألفية الأولى على معركة “مالازغيت” التي فتحت أبواب الأناضول على وسعها أمام السلاجقة بعد هزيمة البيزنطيّين.
تمكّن حزب العدالة والتنمية التركي من توفير حالة من الهدوء الماليّ والمعيشي في تركيا والحؤول دون وقوع كوارث اقتصادية أكبر. ويكرّر الرئيس التركي أنّ هدف حكومته هو الدفاع عن مصالح المواطن ولقمة عيشه، وأنّ “قيمة الفوائد المصرفية ستنخفض، لأنّها العبء الثقيل الذي يحول دون تحقيق برامجنا الاقتصادية والمعيشية”. لكن من المبكر جدّاً الحديث عن تغيّر حقيقي في المشهد الاقتصادي والسياسي القائم اليوم. فهناك ملفّات دائمة السخونة تنتظر، بينها حصيلة الخطّة الماليّة الجديدة المعلَنة وارتداداتها على أرقام الغلاء والبطالة والتضخّم، ثمّ هناك قضايا إقليمية تحيط بها حالة من الترقّب بانتظار حدوث تحوّلات كبيرة على خطّ التصعيد أو التهدئة.
تعاني أحزاب المعارضة من مأزق عدم انفتاحها على العالم الخارجي والتواصل مع الأحزاب والقوى الإقليمية والأوروبية
أزمات تطارد إردوغان
الورقة الأهمّ، التي يلعبها إردوغان وحزبه لإقناع الناخب التركي، هي خطورة ما قد يحدث عند رحيلهما عن الحكم والسير في المجهول الذي ينتظر البلاد مع تحالف حزبي وسياسي حول طاولة سداسية جامعها المشترك إزاحة إردوغان وحزبه. إنّه تكتّل يفتقر إلى وحدة الموقف والقرار في التعامل مع ملفّات وقضايا داخلية وخارجية، وسرعان ما سيجد نفسه أمام حالة من الانقسامات والشرذمة تدفعه إلى انتخابات مبكرة جديدة تضيع الكثير من الوقت والفرص على البلاد. لكنّ هناك حقائق أخرى تطارد الحزب الحاكم، بينها الليرة التي ما زالت تخسر يوميّاً جزءاً من قيمتها الشرائية، وأرقام التضخّم التي ما زالت تواصل صعودها حتى لو تمّ ذلك ببطء. وهناك ملفّات إقليمية دائمة السخونة في إيجه وشرق المتوسط وفي العلاقة مع العديد من دول الجوار التركي، حتى بعدما استطاع إردوغان وحزبه تبنّي سياسة خارجية جديدة أعادت الهدنة والهدوء إلى الكثير من الملفّات التي كانت تلوّح بانفجار كبير في العلاقة بين أنقرة والكثير من العواصم.
مسألة إقناع الناخب بتغيير قراره موجودة دائماً في السياسة. لكنّ الناخب نفسه ما زال ينتظر اختيار “الطاولة السداسية” المعارضة مرشّحها الذي سينافس إردوغان في المعركة الرئاسية ليقول ما عنده. المؤكّد أيضاً هو أنّ المنافسة الحقيقية ستكون على كسب أصوات المتردّدين أو الكتلة الصامتة القادرة على قلب المعادلات وتغيير الحسابات، وهي نسبة تتجاوز العشرة في المئة اليوم.
معارضة متصدعة
مشكلة المعارضة التركية الأخرى هي الوصول إلى تفاهمات على طريقة التعامل مع حزب “الشعوب الديمقراطية” المدعوم من قبل غالبية كردية في جنوب شرق البلاد، والذي له حصّة تصل إلى 10 في المئة من مجموع الأصوات. فالانقسامات علنيّة واضحة بين أطراف التكتّل المعارض في ما يتّصل بالتنسيق مع هذا الحزب المتّهم برفض تحديد موقفه من مجموعات “حزب العمال” وزعيمها عبد الله أوجلان، ولذلك وصلت الشرذمة في صفوف المعارضة إلى تشكيل تكتّل سياسي وحزبي ثالث، وهو ما سيصبّ في صالح تحالف الجمهور إذا ما بقيت الأمور على حالها حتى حزيران المقبل.
بين أزمات المعارضة التركية أيضاً فشل الأحزاب اليمينية التي انشقّت قياداتها عن الحزب الحاكم، مثل حزب “الديمقراطية والتقدّم” لعلي باباجان و”المستقبل” لأحمد داوود أوغلو، في تحقيق اختراق حقيقي في صفوف المحافظين الأتراك واختراق شعبية “العدالة والتنمية”، إذ لم يتجاوز مجموع ثقلهما الانتخابي حتى الآن نسبة الخمسة في المئة.
تعاني أحزاب المعارضة أيضاً من مأزق عدم انفتاحها على العالم الخارجي والتواصل مع الأحزاب والقوى الإقليمية والأوروبية للتعريف بمواقفها وسياساتها والترويج لطروحاتها في التعامل مع الكثير من الملفّات الخارجية التي تعني تركيا. قبل أيام قرّر زعيم المعارضة كمال كيليشدار أوغلو وللمرّة الأولى زيارة واشنطن وعقد العديد من اللقاءات والمحاضرات والندوات. لا أحد يعرف متى قصد كيليشدار أوغلو موسكو أو القاهرة أو الرياض أو أبو ظبي أو باريس أو برلين في العقد الأخير. ولا أحد يعرف لماذا تراجع عن زيارة لدمشق كان قد وعد بها لإعلان سياسة تركيّة مغايرة في الملفّ السوري.
سيكون بمقدور حزب إردوغان مطاردة أحزاب المعارضة واستغلال الأخطاء السياسية التي ترتكبها لأنّها لا تطرح أيّة بدائل سياسية واقتصادية واجتماعية حقيقية تفتح الطريق أمام النقاش وإقناع المواطن. فهي تعتاش على أخطاء الحزب الحاكم فقط، وهذا لن يكفي. همّها الأوّل هو إبقاء الكتلة المغبونة إلى جانبها بدل البحث عن قوّة دفع من خلال برامج ومشاريع إصلاحية ستجد صعوبة في إقناع المواطن بها خلال الأشهر القليلة التي تفصلنا عن الصناديق. أكبر التحدّيات التي تواجهها أحزاب المعارضة ليست في قدرات الحزب الحاكم على منافستها، بل في الانقسامات والشرذمة المتوقّعة والحسابات السياسية الضيّقة التي تعاني منها وتهدّد بانفجار التحالف في أيّ لحظة.
الطريق غير سالكة أمام أردوغان
تقول نتائج استطلاع للرأي حول المرشّح الأوفر حظّاً في معركة الرئاسة أجراه على موقعه جونيد أوزدمير، أحد أبرز الإعلاميين المعارضين، وشارك فيه 471 ألف مواطن، إنّ زعيمة حزب “ايي” ميرال اكشينار كانت المتقدّمة بنسبة 40 في المئة، ثمّ تلاها رئيس بلديّة أنقرة منصور يواش بنسبة 37 في المئة. ليس إردوغان بين الأوائل هنا. هناك استطلاعات رأي أخرى تتحدّث عن تقلّص الفارق في الأصوات بين الحكم والمعارضة، وأنّ حزب العدالة والتنمية يستردّ جزءاً من شعبيّته التي تضعه في صدارة الأحزاب الفائزة، وعن احتمال حصوله على أعلى نسبة أصوات ومقاعد في الانتخابات البرلمانية المقبلة. لكنّ العقبة التي تعترض طريق إردوغان وحزبه تبقى في تقدّم تكتّل المعارضة على تكتّل الحكم بحصول الأوّل على أغلبية مقاعد البرلمان وتسهيل وصول مرشّحه إلى مقعد الرئاسة حسب غالبيّة استطلاعات الرأي.
لا يمكن إغفال ملفّات أخرى ستتصدّر الحملات الانتخابية، بينها ملفّ الأزمة السورية وارتداداتها على الداخل التركي. يريد الحزب الحاكم تسهيل عودة حوالي مليون لاجىء إلى أراضيهم قبل منتصف العام المقبل في إطار خطّة المنطقة الآمنة، فهل ينجح في ذلك؟
ستتفاعل ارتدادات التقارب التركي الروسي والتباعد التركي الأميركي إبّان الحملات الانتخابية، وسيكون لها تأثيرها على قرار الناخب، شئنا أم أبينا.
مشكلة المعارضة التركية الأخرى هي الوصول إلى تفاهمات على طريقة التعامل مع حزب “الشعوب الديمقراطية” المدعوم من قبل غالبية كردية في جنوب شرق البلاد
رهانات حزب العدالة والتنمية
يتمسّك إردوغان وحزبه بخطّة خفض نسب التضخّم من خلال خفض سعر الفائدة بهدف تعزيز الإنتاج والصادرات، والاستفادة من حزم الدعم الاقتصادي التي أُقرّت في الأشهر الأخيرة والتي واكبها قرار رفع الحدّ الأدنى للأجور بنسب كبيرة مرّتين خلال عام واحد، واستغلال المواقف والإنجازات السياسية التي حقّقها الحزب في ملفّات إقليمية على خطّ أوكرانيا وليبيا وقره باغ والطاقة، والمصالحات والتطبيع مع العديد من دول المنطقة، فكلّ ذلك له علاقة باسترداد ما فقده من أصوات، وتحديداً أصوات الشريحة القومية التي ابتعدت عنه وعن حزب حليفه دولت بهشلي لصالح حزب “ايي” الذي تقوده ميرال اكشينار بنَفَس قومي ليبرالي علماني أتاتوركي في وقت واحد.
يراهن حزب العدالة والتنمية أيضاً على تسجيل اختراقات كبيرة مع بداية العام المقبل تساهم في تحسّن الأوضاع الاقتصادية والمعيشية وتنهي تراجع ثقة المواطن التركي بقدرة الحكم على وقف النزف.
أمّا الأحجار التي يستطيع إردوغان تحريكها في مواجهة خصومه السياسيين في الداخل فكثيرة ومتنوّعة وتحمل دائماً المفاجآت الصادمة. لكنّ ما ينتظره أيضاً هو معالجة مشكلة التراجع الكبير في شعبيّة شريكه حزب الحركة القومية التي وصلت إلى نسبة 50 في المئة خلال أربعة أعوام، فيما هو مهدّد اليوم بعدم دخول البرلمان في حال فشله في تجاوز عتبة 7 في المئة من مجموع الأصوات المطلوبة، كما تقول بعض التقديرات.
وعد حزب العدالة والتنمية بعد تراجع أصواته وشعبيّته في الانتخابات المحليّة الأخيرة بأن يسارع إلى إجراء نقد ذاتي شامل على مستوى قيادات الحزب وخططه وبرامجه، وطريقة تعامله مع مطالب القواعد التي تخلّت عنه في انتخابات بلديّتَيْ إسطنبول وأنقرة. لكنّه لم يفعل ذلك بعد حسب الكثير من المتابعين من داخل الحزب وخارجه. فهل ينجح في ذلك خلال الفترة الزمنية القصيرة المتبقّية التي تفصلنا عن يوم الذهاب إلى الصناديق؟
إقرأ أيضاً: أنقرة – دمشق: دومينو “الترسيم” يسرّع “التفاهمات”
هل تجري الرياح بما لم تشتهِ السفن، ويجد حزب العدالة والتنمية نفسه بعد عقدين من الحكم أمام مأزق استمرار الوضع الاقتصادي الصعب وتدهور قيمة الليرة وارتفاع أرقام البطالة والغلاء والتضخّم التي دفعت الكثير من ناخبي الحزب إلى الانصراف عنه؟
وهل تنجح أحزاب المعارضة في البقاء موحّدة حتى موعد الانتخابات في حزيران المقبل، والالتفاف حول مرشّح رئاسي مشترك لم تتّفق عليه بعد، يخوض الانتخابات باسمها ويتمكّن من إزاحة إردوغان وحزبه عن الحكم؟