كانت الدورة العشرون لمنتدى دبي للإعلام مميّزة للغاية. فالمنتدى الذي يرعاه صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم وتديره الأستاذة منى المرّى يدخل عقده الثالث بثقة وثبات.
قبل أعوام حضرتُ المنتدى وقمت بتقديم ضيفه الكبير الدكتور أحمد زويل. وقبل أيام قمتُ بالحديث في إحدى جلسات المنتدى، وكانت حول مستقبل الصحافة في مصر.
أدار الأستاذ معتزّ الدمرداش اللقاء، وتحدّث الصديقان عبد اللطيف المناوي وعماد الدين حسين عن صحيفتَيْ “المصري اليوم” و”الشروق”، وعن تحدّيات الحالة الصحافية في مصر. وسمحتُ لنفسي بأن أتجاوز الموضوع المباشر للحديث عن خطر الشعبويّة الإعلامية على قوّة النخبة ومكانتها في العالم العربي. وهو الطرح الذي أدخلني في مناقشات عدة خلال المنتدى.
الإعلام صناعة. فهذه المقولة الشائعة ليست سوى جملة بلاغية مجازية. والأدقّ أنّ الإعلام مهنة لا صناعة. فكلّ صناعة هي نشاط اقتصادي تقوم حساباته على المكسب والخسارة من حيث المال والميزانيات
الإعلام ليس صناعة
لستُ واحداً ممّن يرَوْن أنّ الإعلام صناعة. فهذه المقولة الشائعة ليست سوى جملة بلاغية مجازية. والأدقّ أنّ الإعلام مهنة لا صناعة. فكلّ صناعة هي نشاط اقتصادي تقوم حساباته على المكسب والخسارة من حيث المال والميزانيات.
لا ينهض الإعلام على هذه القاعدة، إنّما ينهض على تحقيق الأهداف لا تحقيق الأرباح. إذْ يُعدّ النجاح في تحقيق الأهداف غير الربحيّة ربحاً بذاته.
الإعلام ليس عملاً خيريّاً
المقولة الشائعة، ولا سيّما في القنوات والمواقع الإخبارية، أنّ الهدف الذي نشأت من أجله هذه المؤسسات هو تقديم المعلومة، هو قول غير صحيح، وهو بالطبع غير مقنع. والسؤال البديهي هو: ولماذا نقوم بكلّ هذا الإنفاق كي يعلم الناس الأخبار؟ وما الذي يُضيرك لو لم يعلموا؟ لِمَ تنفق وكالة “رويترز” وشقيقاتها كلّ هذه الأموال وهي تحقّق خسائر كبيرة سنويّاً؟ ولِمَ تخصّص كبريات محطات الأخبار كلّ هذه الميزانيّات وهي تواصل خسائرها على مدار الساعة؟
الإعلام ببساطة ليس عملاً خيريّاً، ولا هو عمل إنسانيّ يتصدّق فيه الصحافيون على الجمهور بإعطائه الأخبار. إنّ محطّات الأخبار والمؤسّسات الصحافية لا ترسل كلّ هؤلاء المراسلين والموفدين، ولا تفتح كلّ هذه المكاتب، ولا توظّف كلّ هؤلاء المحرّرين والمديرين من أجل أعمال الإغاثة الخيرية، أو التطوّع الإنساني لإيصال المساعدات المعلوماتية إلى مستحقّيها، بل الإعلام يعبّر عن مصلحة وله غاية، ولا يوجد إعلام بلا هدف، والإعلام ليس عملاً خيريّاً.
لا شيء على الهواء مباشرة
في أثناء الثورة المصرية 2011، وبينما كان ميدان التحرير يعجّ بالمتظاهرين، كانت الخوارزميّات في محرّكات البحث ووسائل التواصل تعطي لكلّ من يبحث عن الثورة سيلاً هائلاً من الخيارات الثوريّة، وأمّا الذين كانوا يبحثون عن السياحة في مصر فكانت معظم النتائج “رحلة في النيل”.
يصف الرئيس باراك أوباما ذلك التوجيه الخوارزميّ بـ”الحقائق الخاصّة”. أي أنّ كلّ طرف يدور حول نفسه. فهو لا يقرأ ولا يشاهد إلا ما يوافقه. وكلّ مستخدم لديه ما يعتقد أنّه حقائق. وبالتالي أصبحت لدينا منظومات عدّة للحقائق، أو العديد من الحقائق الخاصّة. وهذا أمرٌ سيّء للغاية. فالحقائق هي الحقائق، وهي واحدة، ويجب أن لا توجد حقائق خاصّة لكلّ طرف على حدة.
واليوم في الحرب الروسية الأوكرانية، يقدم كلّ طرف “حقائقه الخاصّة”. فهناك الحقائق من وجهة النظر الروسية. وهي نقيض الحقائق من وجهة النظر الغربية. وما يبثّه المراسلون في القنوات الإخبارية على الهواء مباشرة من موسكو، غير الذي يبثّه زملاؤهم من كييف.
إنّ كلّ ما يخصّ الحرب، من الملفّ النووي إلى البيولوجي والكيمياوي، ومن أعداد القتلى والمصابين إلى مساحات السيطرة وقصف المدنيين، كلّ شيء تقريباً لا توجد فيه حقيقة واحدة، بل حقائق متعدّدة. ولم يستطِع البثّ المباشر أن ينقل حقيقة واحدة، بل هو ينقل حقائق متصارعة.
الفكرة فوق الصورة
يحتفي الإعلام المعاصر، قديمُه وجديدُه، بالصورة. وفي كلّ محاضرة إعلاميّة تكون أشهر المقولات أنّ الصورة هي أهمّ شيء، بل هي كلّ شيء، وأنّنا في عصر الصورة.
إنّ دور الصور كبير من دون شكّ، وهي حاسمة في تشكيل الرأي العامّ، وتوجيه المزاج العامّ. ولكنّ الانغلاق على هذا الإيمان بالصورة من دون الإيمان بالفكرة أمرٌ خطيرٌ.
وحسب الأديب العالمي ماريو بارغاس يوسا الحائز جائزة نوبل في الآداب 2010، فإنّ انشغال الناس بالأخبار المصوّرة من دون الأفكار العميقة والمعرفة النقدية، أمر يجب تعديله. ويصف يوسا صعود الشعبويّة السياسية بـ”حضارة السطحيّة” التي لا تتيح العرض الفكري الجادّ.
يساعد الإعلاميون الشعبويون على ترسيخ السطحيّة، وتعزيز السذاجة الفكرية لدى الجمهور. ذلك أنّ كثيراً منهم لا يملك المعرفة التي يمكنه تقديمها، ويجدون مصلحتهم في رعاية كلّ ما لا قيمة له، للوصول إلى المشاهدات والقراءات المرتفعة، حيث أصبحت التريندات واللايكات هي المسار اللازم لصناعة المجد الزائف.
إنّ الذين يتصفّحون الصور والمقاطع المصوّرة لا يمكنهم اكتساب معرفة حقيقية، ولا يمكنهم تقديم قراءة نقدية أو رؤى عميقة.
في هذا السياق الرديء يحظى دعاة الدم والفاشيّون الدينيون بالحضور والانتشار، ويحصد المتطرّفون الرقميّون والمؤثّرون العبثيّون ملايين المشاهدات، ولا يزال زعماء التنظيمات وقادة الميليشيات، الذين تمكّنوا من خداع الكثيرين، يواصلون إعلامهم المزيّف، وهم يواصلون ذلك مدعومين بدوائر المال والسياسة وبرامج الذكاء الصناعي.
شعبيّة بلا عقل وعقل بلا شعبيّة
لا يمتلك المفكّرون والفلاسفة والعلماء الشعبية الكافية لدى الجماهير الغفيرة، بينما يمتلك الإعلاميون السطحيّون أعداداً كبيرة من المتابعين.
خطر هذه المعادلة أنّ لدينا في جانب الإعلام الشعبوي جماهير بلا عقل، وفي جانب العلماء والمفكّرين عقلاً بلا جماهير. وإذا ما استمرّ الأمر على هذا النحو، فستتآكل النخبة الفكرية والثقافية، وستتمدّد الشعبوية إلى أنْ تتآكل النواة الصلبة للدولة والمجتمع.
إقرأ أيضاً: تشارلز والأزهر: دكتوراه فخريّة وصوت منصف بشهادة ثلاثة أئمة
ثمّة إعلام عربيّ جادّ، وثمّة نخبة من الإعلاميّين والمثقّفين المحترمين، وهم يعملون بكلّ طاقاتهم من أجل تقديم ما يجب تقديمه، وإزاحة ما تجب إزاحته.
تعمل الصحف والمواقع الجادّة وسط صعوبات اقتصادية جمّة، وتعمل محطّات التلفزيون وسط منافسات عاتية، وتكاليف باهظة، ويعاني المحتوى الرصين من ضعف الدعم والمساندة. لكنّ استمرار تلك المعادلة السيّئة من صعود الشعبوية وهبوط النخبوية سيشكّل ضغطاً هائلاً على مستقبل الصحافة والسياسة في العالم العربي.
الأمر ببساطة أنّ العقل العربي يحتاج إلى الشعبيّة، ويحتاج الشعبويون العرب إلى العقل.
* كاتب وسياسيّ مصريّ. رئيس مركز القاهرة للدراسات الاستراتيجيّة. عمل مستشاراً للدكتور أحمد زويل الحائز جائزة نوبل في العلوم، ثمّ مستشاراً للرئيس المصري السابق عدلي منصور.
له العديد من المؤلَّفات البارزة في الفكر السياسي، من بينها: الحداثة والسياسة، الجهاد ضدّ الجهاد، معالم بلا طريق، أمّة في خطر، الهندسة السياسية.