تقول كييف إنّ المعركة ما زالت في بدايتها على الرغم من كلّ الخسائر والأضرار، وإنّ أراضيها ستعود إليها في نهاية الأمر ما دام الغرب يواصل دعمها. المقاومة الأوكرانية مرتبطة بمواقف العواصم الغربية وواشنطن تحديداً. لماذا رفضت أميركا فتح الطريق السريع أمام عضويّة أوكرانيا في حلف شمال الأطلسي واكتفت بإعلان مواصلة الحشد السياسي وتكثيف العقوبات ورفع مستوى الدعم العسكري لكييف؟ لم تقبل واشنطن منح أوكرانيا الضوء الأخضر لنيل عضوية الناتو، فهل السبب هو تجنّب الدخول في حرب عالميّة ثالثة ضدّ روسيا سيكون السلاح النووي إحدى وسائلها كما يُقال؟ أم التفاهمات الأميركية الروسية غير مستبعدة لأنّ احتمال الانفجار الكبير قد يدفعهما إلى طاولة ما تقود إلى شيء ما غير الحرب الشاملة على كلّ الجبهات؟
يسعى بوتين اليوم إلى إقناع العالم بأنّ موضوع أوكرانيا هو قضية حياة أو موت بالنسبة إلى بلاده. قد يكون محقّاً في رفضه الأساليب الغربية في التعامل مع المسألة
روسيا: لا ننوي الإضرار بالنظام العالمي
قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال اجتماع سياسي اقتصادي موسّع عُقد في موسكو بأواخر شهر شباط المنصرم خُصّص لبحث تداعيات الأزمة مع أوكرانيا إنّ “ما يجري الآن في أوكرانيا هو إجراء اضطراري، ولا ننوي إلحاق الضرر بالنظام العالمي الذي نحن جزء منه، وعلى شركائنا إدراك ذلك”. لكنّ القيادة الروسية نفسها هي التي ردّدت أنّ انضمام أوكرانيا إلى تحالفات دولية كحلف شمال الأطلسي وطلب الانضمام إلى عضويّة الاتحاد الأوروبي يضعان سيادتها على مناطق كإقليم القرم في خطر وشيك، وأنّها استجابة لنداءات الأقليّة السلافيّة تحرّكت باتجاه القرم للردّ على “جرائم دولية ترتكب في إقليم دونباس” وفي إطار المادّة 51 من ميثاق الأمم المتحدة التي تنصّ على حقّ الدفاع المشروع عن النفس والواجب تفعيلها في مواجهة أوكرانيا.
أعلنت روسيا بعد أشهر من غزوها لأوكرانيا ضمّ أكثر من 15 في المئة من أراضيها. وقرّرت إلحاق مناطق دونيتسك ولوغانسك وزاباروجيا وخيرسون بالجغرافيا الروسية بعد ما وصفته باستفتاءات في هذه المناطق المحتلّة. إذاً كان يناور الكرملين لكسب الوقت وإلهاء العالم، ويستفيد من ضعف وتفكّك المجتمع الدولي ومؤسّساته وتضارب المواقف السياسية في العالم وتباعد آراء خبراء القانون الدولي حول ما يجري.
الجموح الروسي
ضمّ أراضي دولة سيادية معترف بها من قبل الأمم المتحدة هو استيلاء على هذه الأراضي بالقوّة وانتهاك للقانون الدولي لا يمكن أن يكون له أيّ تأثير على الوضع القانوني والسياسي والجغرافي للدولة. نظريّاً إنّه كلام منطقي ومقبول، لكن عمليّاً هناك عشرات الحالات التي ما زالت تنتظر الحلّ أو حُسمت بحكم منطق القويّ على الضعيف، وهذا ما يقوّي موقف موسكو كما يبدو.
إذاً الإجابة واضحة على سؤال: هل يُعتبر إلحاق شبه جزيرة القرم بروسيا انتهاكاً للقانون الدولي.
لن تتمّ تسوية هذه المشكلة بسهولة لأنّ هناك تناقضات بين مبدأين أساسيّين في القانون الدولي: الحقّ في تقرير المصير وحقّ الدولة في وحدة أراضيها. الذرائع موجودة ومن الصعب إقناع موسكو بالتخلّي عن الضمّ والإلحاق، وهي غير راغبة في ذلك أساساً. لكنّ مواقف الصين والهند في الجلسة الأخيرة لمجلس الأمن الدولي التي تناولت الملفّ الأوكراني لم تكن مشجّعة كثيرة لروسيا. يحاول الرئيس بوتين تطبيق منطق العلاقات الدولية القائم قبل قرون، متجاهلاً وجود نظام عالمي أممي جديد قبلت بلاده أن تكون جزءاً منه على الرغم من كلّ نواقصه وسلبيّاته، لكنّها تنسف كلّ ما دافعت عنه عبر خطوة إحياء روسيا القيصرية مستقوية بالسلاح النووي هذه المرّة.
رفع بوتين قبل عقدين شعار مواجهة السياسات الغربية في العالم ومحاولات الهيمنة والتحكّم بمقدّرات وقرارات شعوب دول العالم الثالث، فارتفعت أسهمه وشعبيّته بسبب مواقفه هذه. تغاضى الكثير من الدول عن السياسات الروسية في جنوب آسيا والشرق الأوسط وآسيا الوسطى تحت ذريعة أنّ الغرب هو من يحاول اختراق الفضاء السوفييتي القديم ويضيّق الخناق على موسكو. لكنّ الخطأ الاستراتيجي الفادح، الذي ارتكبه بوتين في شباط المنصرم بعد قرار مهاجمة الجار الأوكراني، بدّل الكثير في مواقف الدول التي كانت تعوّل على موسكو لموازنة النفوذ الغربي وإلزام أميركا بمراجعة مواقفها وسياساتها.
خسارة موسكو وأوراقها الاستراتيجية
يسعى بوتين اليوم إلى إقناع العالم بأنّ موضوع أوكرانيا هو قضية حياة أو موت بالنسبة إلى بلاده. قد يكون محقّاً في رفضه الأساليب الغربية في التعامل مع المسألة. وقد يكون هناك أغلبية عرقية سلافية في دونباس والقرم من حقّها المطالبة بحماية هويّتها وحقوقها في دستور أوكراني جديد. لكنّ تحريك القوات الروسية من أجل احتلال هذه المناطق الواقعة تحت سيادة الدولة الأوكرانية اليوم، ثمّ محاولة ضمّها بقوة السلاح تحت غطاء استفتاء شعبي دعم إلحاق هذه المناطق بروسيا، فهذا يعني خسارة موسكو الكثير من الأوراق التي كانت تملكها بعدما أطلقت النار على قدمها في أوكرانيا.
تحرّك روسيا أوراقاً استراتيجية للوصول إلى ما تريده بعد الحرب التي شنّتها ضدّ أوكرانيا عبر التصعيد العسكري المتواصل ضدّ الجيش الأوكراني والتلويح المستمرّ بورقة الطاقة وتذكير الغرب بما جرى على خطّ “نورث ستريم 2″، وعرقلة عمل مجلس الأمن الدولي، والتحرّك السياسي والدبلوماسي بالتنسيق مع شركائها في آسيا وإفريقيا، والاستفادة من ملفّ تسهيل خروج الحبوب بشقّه الإنساني، والتلويح باستخدام السلاح النووي عند اللزوم، وقبول التحدّي الاقتصادي والتجاري والماليّ في الصدام الحاصل، ومحاولة تحريك الداخل الغربي بسبب الأزمات الاقتصادية والمعيشية، والاستفادة من صعود اليمين القومي المتشدّد في مواجهة المحافظين والليبراليين والاشتراكيين في أوروبا.
يحاول الغرب الردّ عبر رفع مستوى الدعم العسكري والماليّ والسياسي لأوكرانيا، وزيادة الضغوطات الاقتصادية والماليّة على روسيا، واستنزاف موسكو اقتصادياً وسياسياً على مستوى المجتمع الدولي في محاولة لعزلها وإسقاط حكم بوتين. يدعم الغرب أوكرانيا بالكثير من الوسائل، لكنّه يرفض قبول عضويّتها في حلف شمال الأطلسي كي لا يجد نفسه في مواجهة عسكرية مباشرة مع القوات الروسية.
لا تبشّر بالخير أحداً لعبة الشدّ والجذب والسيناريوهات المحتملة لشكل النظام العالمي المرتقب بناء على معطيات الحرب المشتعلة داخل مثلّث القرم وشرق أوروبا والبحر الأسود. تدفع ثمنَ فعلتها قواعدُ وتفاهماتُ نظام عام 1945 التي بُنيت فوق مستنقعات رمليّة متحرّكة. مؤسّسات إقليمية ودولية سياسية وحقوقية واجتماعية واعدة في حالة من الجمود والشلل الكاملين، وتتابع مهزلة جلسات مجلس الأمن الدولي ونتائج اجتماعات الجمعية العامّة للأمم المتحدة قبل أسابيع، والانسداد الحاصل بعدما تحرّك البعض للتلويح بلعب الورقة التي لا يجوز تحريكها أصلاً، سلاح الدمار الجزئي قبل الشامل والقتل المبرمج والبطيء، لحسم الموقف والوصول الى المطلوب.
تتقاطع كلّ المؤشّرات التي تدور حول الحرب في أوكرانيا والمواجهة الروسية الغربية عند نقاط محورية تحمل توقّعات أساسيّة بينها: استحالة حدوث تفاهمات بين القيادات السياسية الروسية والغربية الحالية والذهاب نحو طاولة حوار وتهدئة. أحد الطرفين ملزم بالتراجع لصالح الطرف الآخر إمّا عبر تحوّلات سياسية داخلية أو بقبول فشله في مواصلة المواجهة حتى النهاية. مَن سيتراجع أو يستسلم أوّلاً؟ إنّه السؤال الأساسي في هذه المعركة المكلفة حول أوكرانيا وجغرافيّتها التي بدأت تزداد تشابكاً وتعقيداً.
تسرُع الغرب ووعوده الربيعية
لم يصغِ الغرب إلى تحذيرات العديد من الخبراء والمستشارين النافذين من عدم محاولة لعب الورقة الأوكرانية ضدّ روسيا. كان مستشار الأمن القومي الأميركي الأسبق زبيغنيو بريجنسكي أبرزهم في الدعوة قبل 7 سنوات إلى عدم تحريك الحجر الأوكراني ومحاولة إشعال الضوء الأخضر لقبول عضويّة أوكرانيا في حلف شمال الأطلسي، والاكتفاء بدعم عضويّتها في الاتحاد الأوروبي في إطار تفاهمات غربية روسية. ردّد الرئيس الأوكراني أكثر من مرّة أنّ بلاده جاهزة لعضوية سريعة ومؤثّرة في حلف الناتو، لكنّ الردّ الغربي جاء سريعاً وقاسياً أيضاً: “ربّما في ربيع آخر”، كما قال مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان، “فالحلف لن يقبل عضوية دولة في حالة حرب مع دولة أخرى، وعليكم القتال حتى النهاية بعدما أنفق الغرب مليارات الدولارات حتى الآن على تسليح الجيش الأوكراني”.
إقرأ أيضاً: الملالي في امتحان مهسا أميني
سقط فولوديمير زيلينسكي في المصيدة الغربية التي كان همّها الأوّل إقحام روسيا في مواجهات عسكرية على جبهات شرق أوروبا والبحر الأسود والقرم. لا يقلّ بوتين حزناً عن نظيره الأوكراني، فهو أيضاً سقط في الفخّ الغربي. أعطى أوامره بمهاجمة الجار الأوكراني واحتلال جزء من أراضيه، ثمّ أجرى استفتاء شكليّاً في القرم انتهى بقبول طلب عودة الجغرافيا المحاذية لروسيا إلى حضن الوطن بعد 3 عقود من انهيار الاتحاد السوفييتي و7 عقود من منح القرم للأوكرانيين كهديّة من ستالين.
لو لم يدعم الغرب خطوات تايوان في مواجهتها مع الصين، ولو واجه خطوات القضم والضمّ الإسرائيلية في الجولان وفلسطين، لكان حصد مصداقية أكبر اليوم وهو يواجه إلحاق شرق أوكرانيا بالدولة الروسية. من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر!