جمعُ مفتي الجمهورية اللبنانية نوّاب السُنّة بدار الفتوى ليس حدثاً عابراً. فبسبب ظروف الانتخابات النيابية وترتيباتها خرج أهل السُنّة قسمين: قسم لم يهتمّ للانتخابات، وقسم توزّعت أصواته بطرائق عشوائية أضاعت معناها. أما ذهاب نواب السُنّة إلى دار الفتوى أو عودتهم إليها، ففيه استعادةُ المعنى ومحاولة استعادة الدور الذي ضيّعه كثيرون في سنوات عون الغابرة(!).
لا أحسب أنّ مفتي الجمهورية كان يريد أن يثبت شيئاً لنفسه أو ينفيه. لكنّه كان حريصاً على حفظ المعنى الوطني الكبير لدار الفتوى بالدرجة الأولى. ويريد من جهةٍ أُخرى التنبيه إلى أنّ الفريق السنّيّ لا يمكن تجاهله أو إهماله أو تقاسُمُه، ومن جهةٍ ثالثة مطالبة العائدين بصون الدولة ومؤسّساتها والعيش المشترك كما كان أسلافهم يفعلون.
أصل خراب المدن
في هذه الظروف المستحيلة التي يمرّ بها الوطن وإدارته السياسية وما يحيط بذلك من هلاكٍ وإهلاك، ليس من التعقّل في شيء التذكير بالعواصف التي مررنا ونمرّ بها. لكنّ السادة النواب القادمين إلى دار الفتوى والخارجين منها يكون عليهم أن يتذكّروا أسلافاً لهم دخلوا هذه الدار والتزموا بوطنيّاتها وإسلاميّاتها (وهما وجهان لعُملةٍ واحدة)، ولذلك استُشهدوا، من رياض الصلح إلى رشيد كرامي ورفيق الحريري، ومن قبل وبعد عميد الدار ومفديها (حسب تعبير البيارتة) الشيخ حسن خالد. وقد كان معروفاً في ظروف الحرب الأهليّة (1975-1990) أن لا لقاء بين هويّة لبنان (اللبنانية) وانتمائه العربي حسب توجُّه كثيرين. بيد أنّ كلَّ الذين استُشهدوا كانوا لبنانيّين وعرباً. وهو المنطق الذي ظهر في كلمة المفتي وفي بيان النواب الختامي.
المفتي حرّكته همم الرجال الغيورين على الوطن وسياساته. والنواب حرّكهم الشعور الأخلاقي للذي افتقده رؤساؤهم
أكبر ما أصاب أهل السُنّة في لبنان (والآن في كلّ مكانٍ من المشرق العربي) أنّ كلّ مشكلات لبنان الطائفية والسياسية تمركزت في مدنهم وهم أهل المدن، وانتهى الأمر إمّا بخراب المدن أو باستيلاء ريفيّي الطوائف على ذاك الخراب الجميل! وحتى عندما جاء جنود الرئيس الأسد إلى لبنان لمنع استيلاء الفلسطينيّين عليه ولإنهاء الصراع الداخلي فإنّهم تحالفوا مع الأقلّيّات المسلّحة من الشيعة والمسيحيّين والدروز واعتبروا السُنّة تحصيل حاصل.
سوريا تحالف راديكاليتين
جدّت المملكة العربية السعودية وكدّت إلى أن توصّلت إلى جمع النواب اللبنانيين في الطائف حيث أقرّوا الدستور الجديد، لكنّه بقي في وعي المسيحيين ضرورةً لإنهاء الحرب وليس خياراً. ومع أنّ السوريّين أبعدوا كبار المسيحيّين فإنّهم لعبوا في صفوفهم على هذا العنصر: أنّ المسلمين عبر رئاسة الحكومة بالطائف هم الذين حصلوا على الحصّة الكبرى من الجبنة وأكلوا حقوق المسيحيّين. وبقي الشيعة بعد الطائف احتياطاً استراتيجياً للسوريين، وحزب الله هو الحزب المسلّح الوحيد باعتباره تنظيم المقاومة ضدّ إسرائيل!
لماذا الإطالة والموضوع الاجتماع بدار الفتوى؟
لأنّ الراديكاليّتين الشيعية والمسيحية تحالفتا (نصر الله + عون) في كنيسة مار مخايل عام 2006 من أجل السيطرة على البلاد بعد الخروج السوري على أثر اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005. وهكذا عاد حزب الله إلى احتلال بيروت عام 2008، وأطلق يد عون في الحكومات اللاحقة “لاستعادة حقوقه من السُنّة” وصولاً إلى انتخابه رئيساً عام 2016.
وكان زحف الريف على المدن في لبنان والمشرق العربي حدثاً ديمغرافياً وسياساً. أمّا عهد عون – نصر الله (2016-2022) فكان استيلاءً كاملاً على السلطة، ولم يقاومه أهل السُنّة ولا عقلاء المسيحيين والشيعة كما يجب. ذلك أن بعضهم اغترّ بالسلطة التي حصل على فتاتها، بينما اغترّ البعض الآخر بالوهج والهرج والمرج التي أحدثها حزب السلاح.
الاغتيالات والغزو
عقلاء المسيحيين والشيعة لم يقاوموا لأنّ معظمهم حصل على مكاسب. فلماذا لم يقاوم السُنّة وهم لحمة البلاد والمؤيّدون لدستورها وشرعيّاتها، وقد اشتدّت المواجهات عليهم من جانب حزب السلاح ومن جانب طائفيّات عون وصهره الماجد(!).
التعليل كان جاهزاً، فبالكبير: الأوضاع الاستراتيجية مائلة لصالح إيران وحلفائها ولا يمكننا فعل شيء مع الغياب العربي. أمّا الصغير فبالقول: رئيس الجمهورية يعاونه حزب الله يزعم أنّه شريك كامل في الحكومة، فإن لم نوافقه على موازينه المحرَّفة لا تتشكّل الحكومة. ولذلك غابت الحكومات سنتين، واستولى العونيون على الوظائف العامّة، ودخلوا صفقات الطاقة الأسطورية، وصارت لهم حصّة حتى في الوزراء السُنّة! أمّا حزب الله فقد سيطر على قرار الحرب والسلم ودخل الصفقات الكبرى أيضاً وقَصَر علائقنا بالخليج على تجارة السلاح وتهريب المخدِّرات، وقاتل مع الإيرانيين وميليشياتهم في سورية والعراق.. وإلى اليمن.
المهمّ والمفجع أنّنا وصلنا إلى انتخابات العام 2022 ولم يبقَ باليد شيء، وألقت الأزمة علينا بكلكلها، وصار الطرابلسيون ينتحرون وهم يطلبون الحياة، واخترقت سائر التيّارات الغريبة عن ديننا وعروبتنا صفوفنا ومجتمعاتنا. وزاد الطين بلّة إعلان سعد الحريري اعتزاله العمل السياسي. والمعروف أنّ شبكة الإدارة التي تركها لتيار المستقبل مثل الباباراتزي، وقد ورثوا كلّ أمراض حالة التخثّر اللبنانية والحريرية.. إلخ. ومن أجل تلك الظروف الاستثنائية ما كان الفائز في الانتخابات النيابية مسروراً، ولا كان المهزوم مغروراً.
لقد دأبنا على الشكوى طوال أكثر من عشر سنوات. مرّة من الاغتيالات في صفوفنا. ومرّة من غزو بيروت. ومرّة لتشكيل الحكومات بالقمصان السود. ومرّة للفساد الكبير الذي يمارسه الجميع ودخله سنّيّون. ومرّة لأنّ سعد الحريري غير كفوءٍ للمنصب وقد أكله عون. ومرّة لأنّ السعوديين ما عادوا يساعدون كما كانوا يفعلون. وعلى صورة هذه الشكاوى المقذعة جاءت نتائج الانتخابات، وفي حالةٍ من الشرذمة يعلمها الله.
رئيس بلا أقارب وأصهار
ومن هنا تأتي دعوة مفتي الجمهورية للنواب. قال لهم المفتي كلاماً عاديّاً وآخر غير عاديّ. العاديّ أنّه لا بدّ من رئيس يحفظ الثوابت والطائف والدستور وشرعيّات العيش المشترك والعلاقات العربية والدولية. وغير العاديّ قول المفتي للنوّاب: نريد رئيساً عنده أخلاق! أخلاق المهمّة وأخلاق المسؤوليّة. نريد رئيساً نخلص معه من صراع الصلاحيّات والطائفيّات. ونريد رئيساً ليس عنده أولاد ولا أقارب ولا أصهار، مقطوعاً من شجرة مثل الرئيس إلياس سركيس. وبالطبع ما قال المفتي ذلك، لكنّه افتقد الأخلاق والمروءة في زمن الأسى واليأس والمجاعات والانتحارات.
إقرأ أيضاً: لقاء دار الفتوى والموقف الوطني
المفتي حرّكته همم الرجال الغيورين على الوطن وسياساته. والنواب حرّكهم الشعور الأخلاقي للذي افتقده رؤساؤهم. وإذا افتقد السياسيّ الأخلاق فإنّ الأخلاق هي التي تلتمس السياسي. السياسة أشرف المِهَن في هذا العالم لأنّ الهدف خدمة الناس. وهذا ما قاله المفتي للنواب. قال لهم: نجتمع لخدمة الناس، ولاستنقاذ النظام والدولة، وللتغيير الذي لا يشتاق إليه أحدٌ كما يشتاقه الفريق السنّيّ.
المفتي حمل على عاتقه مسؤوليّات دولة ووطن. النوّاب ارتفع بهم حسُّ المهمّة ووعيها فتجاوزوا انقساماتهم والصغائر التي هم محاصَرون بها ومضوا إلى دار شُوراهم فلم يخرجوا منها إلّا وقد اتّضح الطريق: انتخاب رئيس أمين للثوابت، وعنده أخلاق.