مركب جديد ينضمّ إلى قافلة مراكب الموت. المركب الهزيل الذي كان ينوء بحمله من المهاجرين الباحثين عن أرض تؤويهم كبشر عاديّين، لم يقوَ على مواجهة أمواج البحر العاتية، فغرق قبالة جزيرة أرواد السوريّة. هذا المركب الذي لا اسم له، كان يحمل أشخاصاً يبدو أن لا قيمة لهم في العقول السياسية الحاكمة. هم مجرّد أرقام تُسجَّل على الشاشات وتظهر في التقارير الطبيّة والإعلامية. لكن على الرّغم من حجم الفاجعة وعظيم ألمها، إلّا أنّه لم يعد جائزاً أو مقبولاً التعامل مع قضيّة مراكب الموت كما هو الحال منذ العام 2019.
الذين قضوا غرقاً سابقاً واليوم وفي المستقبل يستحقون الدمع وكل مشاعر الحزن النبيلة جانباً. لكن هؤلاء الضحايا والآخرون الذين قد يكررون تجربة من سبقهم تستوجب الذهاب أبعد من حصر القضيّة في نقطتين اثنتين: انتحاريّة المهاجرين، وجشع صغار المهرّبين. القضية أكبر من ذلك بكثير. إنّها جريمة منظّمة يتقاطع فيها اقتصاد التهريب المغطّى أمنيّاً على أرفع المستويات مع تغيير أو “ترانسفير” ديمغرافي بعيد المدى يتمّ تنفيذه بقرار سياسي.
لم تكن هذه الظاهرة بحراً فقط، بل كان لها أيضاً طرق أخرى، أبرزها كان نقل المهاجرين جوّاً بطرائق نظاميّة إلى تركيا التي تحوّلت إلى قاعدة رئيسة في هذه التجارة، ثمّ برّاً إلى دول البلقان كمحطّة لا بدّ منها نحو الغرب الأوروبي
لماذا الساحل الشماليّ؟
السؤال الأساس الذي ينبغي طرحه: لماذا لا تنطلق مراكب الهجرة البحريّة إلّا من الشمال فقط؟ هذا هو السؤال المحوريّ. قضيّة المهاجرين غير النظاميّين ليست وليدة الأمس، إنّما عمرها سنوات.
بدأت هذه الظاهرة عقب انطلاق الثورة السورية عام 2011 وتوالي موجات النازحين السوريّين. كانت في البداية تقتصر عليهم مع قليل من اللبنانيّين الذين حاولوا استغلال الفرصة للخروج من لبنان هرباً من فقر لم يهبط فجأة على أهل الشمال، إنّما هو واقع معاش منذ عقود. ثمّ تحوّلت الهجرة غير الشرعية بعد ذلك إلى تجارة منظّمة ازدهرت كثيراً مع اشتداد الأزمة الاقتصادية في لبنان.
لم تكن هذه الظاهرة بحراً فقط، بل كان لها أيضاً طرق أخرى، أبرزها كان نقل المهاجرين جوّاً بطرائق نظاميّة إلى تركيا التي تحوّلت إلى قاعدة رئيسة في هذه التجارة، ثمّ برّاً إلى دول البلقان كمحطّة لا بدّ منها نحو الغرب الأوروبي. وهناك يلقى المهاجرون الأهوال ما بين التيه في الغابات ذات الحيوانات الضارية، وبين نيران حرّاس حدود تلك الدول. لكنّ الهجرة عبر البحر هي أكثر ربحيّة وتدرّ أموالاً طائلة على مَن يديرونها، بما لا يُقاس بأيّ نوع آخر من الهجرة، وهذا ما كان السبب في ازدهارها. لكنّ هذا ما لم يكن ليحدث لولا وجود غطاء أمنيّ رفيع. أو قُل تغاضي لأهداف سياسية يتردد الكلام الكثير عنها وحولها.
ولأنّ مناطق السُنّة في الشمال خارجة عن سيطرة مؤسّسات الحكم الشرعيّة، وقرارها في عهدة الأجهزة الأمنيّة التي تسرح بالطول والعرض فيها بذريعة “التحوط الأمني من داعش”، فقد تحوّل الساحل الشمالي إلى قاعدة للهجرة غير النظامية عبر البحر. لبنانيون، نازحون سوريون، وفلسطينيون من أبناء مخيّمَيْ البارد والبدّاوي، وسوريون يأتون من الداخل السوري فقط من أجل استخدام الساحل الشمالي للهجرة نحو أوروبا.
سُنّة الشمال بين الإرهاب وقوارب الموت
قبل أسبوع فقط، استيقظ أهل مدينة طرابلس بفزع على صوت طائرة “السوبر توكانو” وهي تزأر وتكاد تلامس أسطح المنازل. تساءل الجميع عمّا يحصل، قبل أنْ يتبيّنوا أنّ الجيش سيّر أرتالاً عسكرية لا يُعرَف أوّلها من آخرها للقيام بمداهمات في منطقة “زيتون أبي سمراء” الإسلامية الطابع والهويّة.
ما ظنّه الناس أنّه صيد ثمين لخليّة إرهابية لم يكنْ سوى بضعة رجال لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة تمّ اتّهامهم بعدّة تهم، بينها تزوير العملة الذي أعاد إلى الذاكرة فوراً قضيّة السوري بشّار عبد السعود وفضيحة مقتله على يد أمن الدولة، التي جعلت الرأي العام يُلمّ بوصفة أجهزة الأمن اللبنانية في كيفيّة صناعة واختلاق الخلايا الإرهابية.
العميد الركن المتقاعد خالد حمادة: يستحيل تحرّك مراكب الهجرة من دون معرفة الأجهزة الأمنيّة لأنّ الشاطئ خاضع لرقابة أمنيّة مشدّدة، ولأنّ تحرّك أيّ مركب لا بدّ أنْ يكون مسبوقاً بحركة لافتة من عشرات الأشخاص
هذا الاستعراض العسكري سبقه واحد مماثل في شباط الماضي، عندما زار قائد الجيش المدينة واجتمع مع مفتيها وعلمائها وقيادات روحية أخرى. وكان ملفّ الإرهاب حاضراً في كليهما.
في الأوّل كان موقف قائد الجيش بأنّه لن يسمح بوصم طرابلس بالإرهاب، وكان ذلك بالتزامن مع الهجرة الغامضة لبعض الشباب نحو العراق، والتي لم تتمّ إماطة اللثام عنها وعن أسرارها حتّى اليوم.
أمّا الثاني فقد أتى في حمأة التزخيم الإعلامي لنشر الأخبار عن نشاط “داعش” في طرابلس، تزامناً مع طرح قضيّة مظلوميّة عدد من أهل السُنّة الذين أُلبسوا رداء داعش وأخواتها وأغلبهم من سُنّة الشمال، ومنهم من اعترف بعدما تعرّض لمثل ما تعرّض له عبد السعود، والذين يقبعون في غياهب السجون إمّا محكومين بالإعدام والمؤبّد، وإمّا من دون محاكمة منذ سنوات.
الرسالة واضحة: ملفّ الموقوفين الإسلاميّين غير قابل للنقاش. وفي الوقت الذي يتمّ التساهل فيه مع المتّهمين بالتعامل مع إسرائيل وتبرئتهم، والتساهل مع المتّهمين بمختلف أنواع الجرائم من قتل واغتصاب، وبينما يتمّ طرح مشروع لإخراج تجّار المخدّرات من السجون، وحدهم الإسلاميون يجب أن يبقوا في السجون. وإنْ ضاقت عليهم، نستحدث سجوناً لهم في الملاعب العاطلة عن الرياضة مثلما هو الحال في بعض الدول القريبة. وبالتالي حُشر سُنّة الشمال بين حدّين: مقصلة الإرهاب، وتسهيلات الهجرة بحراً وأحياناً برّاً نحو العراق، وما بينهما فوضى الشوارع برعاية أجهزة الأمن.
لماذا التحرّك بعد الكارثة؟
فور شيوع خبر غرق المركب قبالة جزيرة أرواد، تحرّك الجيش ليلقي القبض على بعض الضالعين في تنظيم عمليّات التهريب بحراً. وهنا ينبعث السؤال: هل انتظر الجيش غرق المركب بمن عليه كي يتحرّك؟ لماذا لم يقُم سابقاً باعتقال هذه الشبكات ضمن إجراءات الأمن الوقائي ما دام لديه سجلّ كامل لها؟ أم هل وصلت المعلومات فقط بعد غرق المركب؟
بعد ذلك تأتي التسريبات الآتية من بعض أجهزة الأمن لترفع عن كاهل ضبّاطها تهمة التواطؤ عبر حصر الأمر ببعض العناصر. وهل يُعقل أنْ تستطيع بعض العناصر الأمنيّة والعسكرية فقط تسهيل هجرة عشرات المراكب يوميّاً من دون معرفة كبار الضبّاط؟
يقول العميد الركن المتقاعد خالد حمادة أنّه يستحيل تحرّك مراكب الهجرة من دون معرفة الأجهزة الأمنيّة لأنّ الشاطئ خاضع لرقابة أمنيّة مشدّدة، ولأنّ تحرّك أيّ مركب لا بدّ أنْ يكون مسبوقاً بحركة لافتة من عشرات الأشخاص الذين يبيعون منازلهم وسيّاراتهم وكلّ ما يملكون للحصول على المال وتقديمه إلى المهرّبين، وهو ما تسهل ملاحظته من قبل شبكات المخبرين.
كلام حمادة تدعمه شهادة وسام التلاوي، وهو أحد الناجين، التي يقول فيها إنّ المركب انطلق من الميناء المزنّر شاطئه على الأقلّ بأربع نقاط أمنيّة مدجّجة بالضبّاط والعناصر.
أفلا يجب مساءلة الضبّاط المسؤولين عن مراقبة الشواطئ أم ممنوع المسّ بهم على الرغم من كلّ الشبهات التي تحيط بضلوع بعضهم في تجارة الأرواح للحصول على الأموال الطائلة المغمّسة بالدماء؟ أم انّ الأزمة المعيشية وانخفاض قيمة الرواتب جعلا الأجهزة الأمنيّة تغضّ النظر عن عمل أبنائها ضبّاطاً وعناصر مهما كان نوع العمل؟
إقرأ أيضاً: فاجعة طرابلس: 32 مفقوداً ومتّهم يحاكم نفسه!
ربّما لو تمّت محاسبة من تسبّب بغرق مركب الموت في نيسان الماضي، ولو كان عن غير قصد، لَما كانت تمدّدت هذه التجارة بهذا الشكل المأساويّ. هذا مع التذكير بأنّ أصحاب القارب المذكور عندما سُئلوا من قبل الإعلام عن سبب غرق مركبهم أو إغراقه، عزوا الأمر إلى عدم تسديدهم “الأتاوة” أو الرسوم المفروضة على كلّ مركب هجرة غير نظاميّ، لكنّ كلامهم تمّ التعتيم عليه. وإنْ لم تقُم القيادات السنّيّة قبل غيرها بالضغط على الأجهزة الأمنيّة لإثارة قضيّة مراكب الهجرة بحراً في مجلس النواب وفي المنابر الإعلامية وبكلّ السبل، فإنّ المأساة مستمرّة.
بالأمس القريب ثلاثون، واليوم ثمانون، وربّما مئة، وغداً كم سيبلغ عدد الضحايا؟ هل سيبقى الشمال ينزف حتى آخر سنّيّ؟