قرّر فلسطينيّو 48 أن يدخلوا انتخابات الكنيست منقسمين، مضحّين بالمزايا الهائلة التي توافرت لهم حين دخلوها موحّدين، وأهمّ المزايا أنّهم أرغموا بنيامين نتانياهو على مغادرة حصنه الحصين رئاسة الوزراء إلى الحصن الأقلّ شأناً رئاسة المعارضة.
انقسام أهل 48، وفق التقديرات الأوّليّة التي قد تكون نهائية، سيؤدّي إلى انخفاض نسبة المصوّتين، وذلك يُنتج انخفاضاً في عدد المقاعد مقابل ارتفاع حظوظ اليمين بقيادة نتانياهو في العودة إلى سدّة الحكم.
لم تستطع القوى السياسية العربية في إسرائيل التعايش مع مزايا الوحدة، التي وفّرت لها أعلى عدد مقاعد في انتخابات سابقة، لذا حقنت نفسها بفيروس الانقسام لتهبط إلى نصف ما حصلت عليه
تقلص المقاعد والنفوذ
حتّى لو لم يحدث ذلك بفعل عوامل يهوديّة خالصة، ففي الحالات كلها فإن تقلّص عدد المقاعد يعني تلقائيّاً تقلّص حجم وفاعليّة النفوذ، وخصوصاً على صعيد العرب.
لم تستطع القوى السياسية العربية في إسرائيل التعايش مع مزايا الوحدة، التي وفّرت لها أعلى عدد مقاعد في انتخابات سابقة، لذا حقنت نفسها بفيروس الانقسام لتهبط إلى نصف ما حصلت عليه.
حتّى لو تواصل التعادل بين القوّتين الطامحتين إلى تشكيل الحكومة، فإنّ حكاية بيضة القبّان التي يتسابق العرب على الاحتفاظ بها لن تعود فعّالة إذا ما اجتاز يمين نتانياهو حاجز 61 مقعداً. فساعتئذٍ يشكّل حكومة صفقة القرن ولا يعود لا هو ولا المعسكر المقابل بحاجة إلى بيضة القبّان العربية.
هذا ما جرى فلسطينياً في إسرائيل، أمّا ما يجري فلسطينياً في فلسطين فالوضع يبدو أخطر وأفدح. ذلك أنّ فيروس الانقسام لم يعد فعّالاً فقط في ما يتّصل بوحدة الضفّة وغزّة، أو “فتح” و”حماس”، أو منظّمة التحرير بمختلف فصائلها، بل استشرى وتعمّق متجاوزاً الانقسام التقليدي بعناوينه القديمة المشار إليها.
عبث بالمصير
ومن دون الغرق في التفاصيل وسَوْق الأدلّة يمكن القول إنّ لا شيء موحّد. فلا السلطة تجسّد عضلة صلبة فعّالة يُعتمد عليها، ولا القوى السياسية المنضوية تحت لافتة الاعتدال وعمودها الفقريّ “فتح” موحّدة في البنية والاتّجاه، إضافة إلى الانقسام بين من اختاروا نهج القتال ويمارسونه في الضفّة، ومن لا زالوا مقتفين أثر منهج التفاوض مع يقينهم باستحالة عودته إلى العمل ثانية.
انقسام مركّب بهذه المواصفات المأسوية يمكن أن يُتفهَّم حين يحدث في بلد آخر وفي شعب آخر، أمّا أن يحدث بهذه الصورة في بلد محتلّ ولدى شعب يُفترض توحّده لإزالة الاحتلال، فهذا ليس مجرّد خطأ منهجيّ أو اجتهاديّ في إدارة سياسة بل عبث في مصير.
لا تراقب إسرائيل المشهد من خارجه، ولا تتعامل معه بطريقة تعاملها مع الجبهات التي تعتبر نفسها في حالة صراع معها، فهي بحكم تغلغلها في مكوّنات الحالة الفلسطينية تستثمر في حقلها من داخله ومن حوله، ذلك عبر سياسة علنيّة هي محلّ إجماع داخل إسرائيل.
عناد متبادل؟
فكلّ حكومة إسرائيلية تريد من الفلسطينيّين أن يكون أمنها هو محور حياتهم ومجال الاتّفاق والاختلاف بين قواهم. فالسلطة في غزّة تكافأ بقدر ما لا تُلحق الضرر بأمن إسرائيل، والسلطة في رام الله تحصل على حقن إنعاش للبقاء على قيد الحياة بقدر ما تعمل في إطار المنظومة الأمنيّة الإسرائيلية ومتطلّباتها. والخلاصة التي تسعى إسرائيل إلى جعلها قانوناً دائماً هي أن يظلّ الفلسطينيون في الضفّة وغزّة في حال احتياج دائم إلى القليل الذي تمنحه لهم لقاء مواصلة الحياة ليس كشعب يملك أرضاً ووطناً، وإنّما كسكّان أمر واقع يحتاجون إلى معالجة.
إقرأ أيضاً: الرئيس عبّاس بمقياس الملكة إليزابيث
فهل هذا الهدف الإسرائيلي يمكن أن يتحقّق؟ بالقطع لا. فالفلسطينيون يملكون على الرغم من فيروس الانقسام الفتّاك عناداً لا تروّضه التسهيلات ولا اختلال موازين القوى ولا الحسابات التقليدية التي تحكم سياسات الآخرين. وهذا العناد يتجلّى في ذلك التداول المستمرّ بين هدوء يبدو لوهلة كصمت قبور، وبين انفجار يتلوه ويبدو كمقدّمة لانتفاضة أعنف وأشمل. وبين الهدوء والانفجار الذي يليه تواصِل إسرائيل استثماراتها في الحقل الفلسطيني من دون بلوغ نتائج حاسمة. يخدعها الهدوء الموقّت الذي تتخيّله دائماً، وتخيفها الانفجارات واحتمالات اتّساعها. وبين خديعة الذات والخوف من المفاجآت يتواصل المشهد الذي فيه يترك اللاعبين جميعاً قي مآزقهم ومن بينهم إسرائيل.