فاحت رائحة الاستغفال والتشويه لتجويف القرار الدولي رقم 1701 ومندرجاته، فاستدركت الدول الكبرى الأمر وأعادت الاعتبار والاحترام إلى القرار الدولي لحماية الجنوب اللبناني والحدود. كانت المناسبة التجديد السنويّ للقوّات الدولية من جانب مجلس الأمن. وفي العادة، وكما يحصل منذ العام 2006، يُذكر في مندرجات قرار وقف الأعمال العدائية وفي موادّ مختلفة: الطائف والدستور، والقراران الدوليّان رقم 1559 (لا سلاح على الأرض اللبنانية إلّا للجيش والقوى الأمنيّة)، ورقم 1680 (المتعلق بالطلب من الحكومة السورية التجاوب مع طلب الحكومة اللبنانية في تعيين الحدود المشتركة بين البلدين، والدعوة الى إقامة علاقات دبلوماسية بين البلدين). وبالطبع فإنّه في كلّ عام تقوم الحكومة اللبنانية من خلال وزارة الخارجية بإرسال مشروع القرار. وكما هي العادة أُرسلَ المشروع هذا العام، إنّما كان خالياً من المندرجات المعتادة: الطائف والدستور، والقراران الدوليّان المذكوران. وكان الفرنسيون بحماستهم المعهودة هم الذين قدّموا القرار للتصويت عليه بالصيغة الناقصة، وهنا بدأت المفارقات.
مَن تنبّه إلى المحذوفات؟ وهل كان الفرنسيّون أم وزارة الخارجية اللبنانية وراءها؟ يُقال إنّ المندوبة اللبنانية هي التي تنبّهت واستفهمت من وزارة الخارجية فلم تتلقَّ جواباً. وإذا صحّت الرواية يكون وزير الخارجية اللبناني والفرنسيّون هم المسؤولون. وعلى أيّ حال، الذين اعترضوا وأرجعوا الفرنسيّين إلى صوابهم، هم الإماراتيون (العضو العربي في مجلس الأمن)، والأميركيون والبريطانيون، وما اعترض الروس والصينيّون على التصحيح.
تحت وطأة ضغوط الحزب المسلَّح على الدوليّين وعلى الجيش ومن زمان، ما عاد الجيش والدوليّون يقومون بمهامّهم على الوجه المرجوّ لحماية الحدود وتأمينها
شكاوى اليونيفيل
ليس هذا فقط، بل إنّ الصيغة التي صدرت أخيراً عن مجلس الأمن أصغت للمرّة الأولى لشكاوى القوّات الدولية طوال سنوات، فأفادت أنّ تحرّكاتها مقيّدة بقيد إعلام الجيش اللبناني ومرافقته قبل تحريك أيّ دورية. بل إنّ “الجيش” منذ سنوات هو الذي يحدّد المناطق التي تستطيع القوات الدولية التحرّك فيها. وعندما كان يحدث أن تشعر إحدى الكتائب بالحاجة الملحاحة إلى الحركة في منطقةٍ معيّنةٍ دونما انتظارها إذن الجيش، فإنّ “الأهالي” هم الذين كانوا يعترضون سبيلها ويحولون دون قيامها بالمراقبة أو التفتيش. إنّ المفروض أن لا سلاح إلّا سلاح الجيش والقوات الدولية جنوب الليطاني. لكنّ الإسرائيليّين والقوات الدولية يقولون دائماً إنّ منطقة وجود الجيش والقوات الدولية صارت مليئةً بالأنفاق ومراكز الأسلحة للحزب المسلَّح. وقد قام الإسرائيليون أحياناً بتفجير تلك المراكز أو التسبّب باندلاع حرائق فيها. وبالطبع فإنّ الحزب وأحياناً الجيش كانا ينكران ذلك، في حين يتساءل بعض “الأهالي”: كيف تستطيع القوّات الدولية أن تدخل البيوت أو الملكيّات الخاصّة حتى لو كان فيها سلاح! وفي المقابل كان لبنان يشكو دائماً من تحليق الطائرات الإسرائيلية فوق منطقة جنوب الليطاني بغرض المراقبة، وهذا مخالفٌ أيضاً للقرار رقم 1701.
المهمّ لهذا العام أنّه لم ينجح المسيطرون بالسلاح على الجنوب وغيره وعلى قرار الحرب والسلم في تجاهُل الطائف والقرارين الدوليَّين (وهما ضدّ الحزب بالذات). ثمّ إنّهم انخذلوا لإعطاء مجلس الأمن للقوّات الدولية الحقّ في الحركة كما تشاء وكما تراه ضروريّاً لحفظ أمن المنطقة المفروض أنّها خالية من السلاح. والمفروض أخيراً أنّ الجيش مع القوّات الدولية ينبغي أن لا تقلّ قوّاتهم الضاربة في جنوب الليطاني عن ثلاثين ألفاً. لكنّ القوات الدولية انخفضت أعدادها أكثر من ثلاثة آلاف بسبب سحب بعض الدول قوّاتها لأسبابٍ مختلفة، بينما لا تزيد أعداد الجيش هناك عن عشرة آلاف لحاجته إليها في نواحٍ أُخرى من لبنان.
هكذا وتحت وطأة ضغوط الحزب المسلَّح على الدوليّين وعلى الجيش ومن زمان، ما عاد الجيش والدوليّون يقومون بمهامّهم على الوجه المرجوّ لحماية الحدود وتأمينها. وكما هو معلوم لا يمرّ شهر إلّا ويهدّد حزب السلاح إسرائيل بالويل والثبور والصواريخ الدقيقة وأخيراً بالمسيَّرات. والكلام الآن على الحدود البحرية التي يصرّح الأمين العامّ للحزب أنّه صائرٌ إلى الحرب من أجلها إذا لزم الأمر. والواقع أنّ الجنوب برَّه وبحره هو في قبضة الحزب. وأمّا الجيش والقوّات الدولية فهم تحوّلوا من زمان إلى ما يشبه رفع العتب وشهود الزور، وإن كان هناك مَن يقول: إنّ للوجود الدولي أهميّته في حضوره، وليس في قدراته العسكرية. وعلى كلّ حال فإنّ قرار “وقف الأعمال العدائية” لم يتطوّر منذ العام 2006 حتى إلى قرارٍ لوقف إطلاق النار، والعلّة مزدوجة بين العدوّ والحزب المسلَّح.
وزير خارجية السلاح
بعد هذا الاستطراد فلنعُدْ إلى المسؤوليّة: مَن هو المسؤول عن هذا الإغفال أو ما هو أكثر في ورقة وزارة الخارجية؟ وزير الخارجية يُنكر المسؤوليّة، لكنّه لا يقول شيئاً عن المسؤول. وقد عرفنا الذي كتب الرسالة وهو غير مسؤول. فقد استنكر مسؤولٌ في حزب الله تحرير حركة القوات الدولية من أيّة قيود، وقال إنّها صارت بذلك قوّات احتلال! كيف يحدث ذلك وهي هناك بقرارٍ دوليّ وفي مناطق كانت تحتلّها إسرائيل، والأهالي الحقيقيون وليس فتيان الميليشيا يطمئنّون إليها ويرون فيها الضمانة والحماية. كتب الحزب المسلّح إذن وبتوقيع وزير الخارجية اللبناني الرسالة التي ذهبت إلى مجلس الأمن، وكان الإماراتيون والدوليون أكثر حرصاً على مصالح لبنان وسيادته من وزير خارجيّته العظيم، وهو الذي بحسب المقولة المصرية: شاهد ما شفش حاجة!
هل ينتهي الأمر عند هذا الحدّ؟ الوزير المشنوق قال إنّها جريمة نجونا من عواقبها هذه المرّة، لكنّها يمكن أن تفاجئنا من جديد. لماذا؟ لأنّ المسؤول عن سياسات الحكومة الخارجية ليس وزير الخارجية الأشمّ فقط، بل أيضاً رئيس الحكومة الأكثر شمماً! ولو كان في دولة عاديّة لانعقدت جلسةٌ لمجلس النواب لمساءلة الحكومة عن هذه الجريمة الشنعاء بالفعل. ولا نعرف ماذا فعل الميقاتي لتصحيح الأمر ولمحاسبة الوزير ومَن وراءه. وكيف تحدَّث وبماذا اعتذر إلى الإماراتيّين والأميركيين والبريطانيين؟! الأرجح أنّه ما اتّصل بأحد، ولولا أنّ صورة وزير الخارجية عنده ظهرت على التلفزيون، لظننّا أنّه لم يتحدّث إلى الوزير أيضاً. فلا هيبة ولا مسؤوليّة، فضلاً عن المحاسبة وعن المتابعة.
ينظر اللبنانيون في العادة إلى رئيس الحكومة باعتباره رئيس السلطة التنفيذية، التي يكون عليها، وقد عزّ النصير، الحفاظ على شرعيّات لبنان التي جرى انتهاكها كلّها في هذا العهد الميمون.
إقرأ أيضاً: بلاد القحط والفقر: جماعات تريد السلطة لها وحدها
لا يدلّ حدثُ قرار مجلس الأمن وما أحاط به على إحساسٍ كبيرٍ بالمسؤوليّة. واللبنانيون ينظرون إلى رئيس الحكومة لحفظ مصالحهم وحياتهم وممتلكاتهم. وها هي المدينة التي ينتمي إليها في منتهى حالات السوء وانفلات المجرمين، فماذا تنتظر يا دولة الرئيس للتصدّي لهذه الجرائم الفظيعة التي روّعت الطرابلسيّين واللبنانيّين؟
الهيبة ضروريّة في السياسة الخارجية، وأكثر في السياسة الداخلية. وحيث لا هيبة لا تبقى إلا الخيبة. ولا حول ولا قوّة إلا بالله.