إذا كان إجراء الانتخابات النيابية في موعدها قد عُدّ إنجازاً ديمقراطياً للسلطة الحاكمة، فلماذا لا ينطبق الأمر نفسه على الانتخابات الرئاسية فتُجرى ضمن مواعيدها الدستورية؟
الفارق بين هذه الانتخابات وتلك يفضح السلطة السياسية وادّعاءاتها الديمقراطية. لكنّ الأخطر أنّه يفضح العطب الديمقراطي في النظام السياسي، لأنّه يدلّ على قدرة القوى النافذة على التحكّم بالعملية الديمقراطية، فتصبح هذه العملية رهن مصالح قوى السلطة وليست عملية قائمة بذاتها لها آليّاتها المستقلّة ومواقيتها المحدّدة. والأخطر الأخطر أنّ هذا “العبث الديمقراطي” حصل هذه المرّة بغطاء دولي، فكانت الدول الديمقراطية الكبرى شاهدة زور على الديمقراطية اللبنانية المزوّرة.
بهذا المعنى كان إجراء الانتخابات النيابية في موعدها فخّاً من فخوخ السلطة بمباركة “المجتمع الدولي”، لأنّه ليس المهمّ الالتزام بموعد الانتخابات وإنّما مدى تعبير هذه الانتخابات عن التحوّلات الاجتماعية – السياسيّة في المجتمع، ولا سيّما أنّها حصلت في عزّ انهيار اقتصادي خرّب حياة غالبيّة اللبنانيين. لذلك كان الحديث عن إنجاز إجراء الانتخابات في موعدها بمنزلة غطاء لاستمرار المهزلة الديمقراطية التي تؤكّد في كلّ مرّة قدرة القوى النافذة على إعادة إنتاج نفسها لأنّها تسيطر على العملية الانتخابية برمّتها ليس من حيث اعتمادها قانوناً انتخابيّاً على قياسها وقدرتها على تعبئة مناصِريها واستخدام كلّ وسائل الترغيب والترهيب وحسب، بل أيضاً من خلال قدرتها على منع تبلور أيّ أفق تغييري حقيقي يقلب هذه المعادلة رأساً على عقب. وهذه مسألة معقّدة إذ إنّ القوى النافذة التي استطاعت تجيير النظام السياسي – الاقتصادي لمصلحتها نجحت أيضاً في تجيير الانهيار لمصلحتها أو بالحدّ الأدنى في منع تحوّله ضدّ مصالحها، وهذا عائدٌ أساساً إلى قدرتها المستمرّة على التحكّم بقنوات المعاش والوعي الجمعيّ الذي لم يتمّ تفكيكه كفايةً أو بشكل صحيح بعد انتفاضة 17 تشرين 2019، فظلّ الوعي التاريخي للنظام هو الوعي الغالب.
كيف يمكن الحديث عن استحقاقات ديمقراطية، وكأنّه يمكن قيام استحقاقات ديمقراطية في بلد انعدمت فيه الديمقراطية
هذه الفجوة العميقة بين مصلحة المجتمع والتمثيل السياسي التي كانت الانتخابات النيابية شاهداً عليها هي الخطر الحقيقي الذي يواجهه لبنان كدولة ومجتمع، وهو خطر لا يقلّ عن خطر تحوّل المقاومة إلى جسم سياسي – عسكري غير محدودٍ بزمان ومكان يأكل من الدولة وفكرتها إلى حدود الإطاحة بها. والقول إنّ اللبنانيين لا يعون مصالحهم يغفل عن أنّ القوى النافذة الاقتصادية والسياسية والدينية هي من يتحكّم بمصادر الوعي، وهي من يقاتل لأجل منع ولادة أيّ وعي بديل. ولذلك كان النظام الاقتصادي المافيويّ قائماً منذ الأساس على تعميق التفاوت بين اللبنانيين بحيث تُخلَق طبقة مسيطرة ترتبط مصالحها ونمط حياتها بعمق بتلك القوى النافذة، وهذا عاملٌ أساسي في ترسيخ الوعي السائد لأنّه يصبح مرتبطاً بشبكة مصالح واسعة من فوق إلى تحت ومن تحت إلى فوق.
ولعلّ انتفاضة 17 تشرين عبّرت في منحى أساسي منها عن خلل في هذه المعادلة أكثر ممّا عبّرت عن حركة اعتراض تاريخية على النظام، إذ إنّ كثيرين من نخب الانتفاضة، الذين ما يزالون يطلقون على أنفسهم لقب “الثوار”، لم يأتوا من الشارع إلى الشارع بل أتوا إليه من نمط حياة وفّره لهم النظام، لكنّهم لم يكونوا في رأس الهرم، ولذلك لم يكن اعتراضهم على جوهر هذا النظام بقدر ما كان على اختلال أو سقوط قدرته على توزيع الثروة بين الطبقات العليا للمجتمع.
هذا أحد الأسباب الرئيسية لفشل الانتفاضة أو ضمورها باعتبار أنّ نخبها معزولون في الأساس عن جسمها الشعبي بمقدار انعزال القوى النافذة عن المجتمع. وهذا يؤدّي إلى ضياع مصالح الناس الحيوية بين سلطة لم تقُم أصلاً إلّا على تحوير هذه المصالح وتدويرها على قاعدة تضييع الحقوق الاجتماعية للّبنانيّين تحت ذريعة حفظ حقوقهم الطائفية، وبين معارضة لا تحاكي في سرديّتها وسلوكها المصلحة العميقة للمجتمع. تلك المصالح التي لا تعبّر عنها شعارات مكافحة الفساد والشفافية لأنّ هذه الشعارات تقبل ضمناً بإعادة إنتاج النظام الاقتصادي نفسه بفساد أقلّ أو خالٍ من الفساد، لكن من دون أفق حقيقي للعدالة الاجتماعية، أي بشكل يسمح باستمرار التفاوت الاقتصادي الكارثي بين اللبنانيين.
أمام واقع كهذا كيف يمكن الحديث عن استحقاقات ديمقراطية، وكأنّه يمكن قيام استحقاقات ديمقراطية في بلد انعدمت فيه الديمقراطية، فلا أحزابه ولا نقاباته ولا مؤسّساته ديمقراطية، والموالاة فيه كما المعارضة مثال على اللاديمقراطية، وحتّى المنظّمات المدنية التي تدافع عن الديمقراطية وتروّج لها لا تظهر عن آليّات ديمقراطية في قراراتها وتركيبتها الإدارية ومصادر تمويلها.
لعلّ انتفاضة 17 تشرين عبّرت في منحى أساسي منها عن خلل في هذه المعادلة أكثر ممّا عبّرت عن حركة اعتراض تاريخية على النظام
بيد أنّ أصل الأزمة أنّ العطب الديمقراطي الأساسي يتمثّل في الهوّة السحيقة بين مصلحة المجتمع والتمثيل السياسي. بل إنّ الديمقراطية اللبنانية بشكلها الحالي أصبحت خطراً على المجتمع لأنّها تسمح بتضييع مصالحه. وهذا ما يفترض بأيّ معارضة حقيقية، إن وجدت، أن تكون واعية له باعتبار أنّ هذا الوعي هو ما يؤهّلها لاكتساب شرعية سياسيّة واجتماعية، لأنّ أيّ معارضة لا تأخذ في الاعتبار المسار التاريخي للأزمة تتحوّل إلى معارضة ظرفية تتحكّم بها مصالح نخبها.
إقرأ أيضاً: بري: سنقترع لمن لا يُشبِه ميشال عون!
تتيح هذه الاختلالات كلّها لجبران باسيل، الذي حاز حزبه نحو 122 ألف صوت تفضيلي في الانتخابات الماضية من أصل نحو ثلاثة ملايين ونصف مليون ناخب، أن يتصرّف بوصفه حاكماً في مجريات الانتخابات الرئاسية، فلا رئيس إلّا هو أو الذي يوافق عليه هو، وكلّ ذلك بغطاء من حزب الله الذي ما يزال يشكّل تحالف باسيل معه نقطة قوّته الأساسية، وأحياناً الوحيدة. لكنّ قدرة باسيل على مناورات من هذا النوع متأتّية أيضاً من أنّ الأداء الديمقراطي في البلد أصبح في أدنى مستوياته، وهو ما يتيح لباسيل أن يقول ما يقول من دون خجل أو رادع، وهو ما يشكّل دليلاً واضحاً على الفجوة العميقة بين مصلحة المجتمع والتمثيل السياسي في الانتخابات النيابية كما في الانتخابات الرئاسية.