قتل المفكّرين أو المنظّرين الذين يؤثّرون على رجال القرار أو يتأثّر بهم رجال القرار دليل فشل وارتباك في المواجهة، سواء أكانت عسكرية أو سياسية أو دبلوماسية أو اقتصادية. وهو عمل مرفوض. وإلّا كان يجب اغتيال برنارد لويس، المفكّر الأميركي الذي نظّر لتقسيم الشرق الأوسط وتأثّر بأفكاره تيّار “المحافظين الجُدد” الذي ينتمي إليه جورج بوش الابن وأعضاء بارزون في إدارته. وكان يجب اغتيال المفكّر الأميركي سبيغنيو بريجنسكي، الذي طوّر بعد الحرب الباردة نظرية تطويق روسيا ومنعها من إعادة بناء إمبراطوريّتها. وكان يجب اغتيال البريطاني هالفورد ماكندر صاحب نظريّة “قلب الأرض”، والأميركي ألفرد ماهان صاحب نظريّة “القوّة البحريّة” ، ومؤسّس علم الجيوسياسة كارل هاوسهوفر، الذي كان له تأثير على أفكار هتلر التوسّعيّة.
منذ أيّام انفجرت السيّارة التي كان سيستقلّها المفكّر الروسي ألكسندر دوغين بعبوة ناسفة. ماتت فيها ابنته دارِيا. ضجّ العالم بالخبر. ليس لأنّ الانفجار وقع في قلب موسكو، ولا لأنّه سيشكّل محطّة في الحرب الروسيّة – الأوكرانية، التي ما تزال تحتلّ المركز الأوّل في الإعلام الغربيّ، إنّما بسبب شخصيّة دوغين الإشكاليّة.
اشتهر دوغين بعد صدور كتابه: “النظرية السياسية الرابعة”، وهو الرابع بعد ثلاثة كتب عن الرأسمالية، والاشتراكيّة والفاشيّة. وحلّل الكاتب فشل تلك النظريّات. وقدّم في كتابه الرابع نظريته لخلاص العالم من الهيمنة الأميركيّة
مَن هو دوغين؟
وُلد ألكسندر دوغين في موسكو في العام 1962. وهو فيلسوف وعالم اجتماع ومفكّر سياسي روسيّ. كان أستاذ علم الاجتماع في جامعة لومونوسوف في موسكو (2008-2014) وأستاذ شرف في جامعة طهران وفي الجامعة الوطنية الأوراسيّة في كازاخستان. يتقن عدّة لغات أجنبيّة. دوغين مفكّر ومؤلّف وناشط سياسي مناهض للغرب الأميركي – الأوروبي. عارض سياسة بوريس يلتسين بسبب ارتمائه في أحضان الغرب. وشارك في تأسيس “الحزب الوطني البولشفي” (1990).
اشتهر دوغين بعد صدور كتابه: “النظرية السياسية الرابعة”، وهو الرابع بعد ثلاثة كتب عن الرأسمالية، والاشتراكيّة والفاشيّة. وحلّل الكاتب فشل تلك النظريّات. وقدّم في كتابه الرابع نظريته لخلاص العالم من الهيمنة الأميركيّة.
ألكسندر دوغين هو أحد أفراد حلقة سياسية مؤثّرة جدّاً في روسيا تُعرف بـ”نادي إيزبورسكي” السياسيّ الذي يضمّ عدداً من المقرّبين من فلاديمير بوتين، بينهم المتروبوليت تيخون، الراهب والأسقف والأب الروحيّ لسيّد الكرملين. على رأس هذه الحلقة الضيّقة فلاديمير ميدنسكي، المستشار السياسي لبوتين الذي يرأس وفد المفاوضات مع أوكرانيا ووزير الثقافة السابق. يلقّبه البعض بـ “غوبلز بوتين”. وقد أتى في الاجتماع التأسيسي لهذا “النادي السياسي”: “بناء الإمبراطورية الأوراسيّة، يمكن أن يكون اليوم أيديولوجية روسيّة”. وهو صدر قبل أشهر على ضمّ شبه جزيرة القرم (2014) الذي اعتبره تيخون “انتصاراً”. وقال عنه دوغين بأنّه “خطوة جيوسياسيّة ثوريّة وانفصال كامل عن النظام الغربيّ”. كان تأثير دوغين على سيّد الكرملين أيضاً من خلال عمله مستشاراً لسيرغي ناريشكين، رئيس الدوما (2011-2016).
على الرغم من كلّ هذا الدور الذي يلعبه ألكسندر دوغين في نظام بوتين، فهل استهدافه سيوقف سياسات بوتين الإمبريالية في أوروبا والعالم؟ بالطبع لا. المفكّر يملك التأثير. أمّا القرار فلدى الرجل السياسي. وللتذكير، الاغتيالات هي لعبة رجل “الكي.جي.بي” السابق. حذار.
علامَ تقوم هذه النظرية؟
الفكرة الأساسيّة في نظريّته هي تحقيق وحدة أوراسيا (أوروبا – آسيا) بقيادة روسيّة. الهدف هو استعادة الإمبراطورية الروسية “بوسائل مختلفة، منها العسكريّة، والدبلوماسيّة، والضغوطات الاقتصاديّة… وهذا يعود إلى المكان والزمان”، كما قال في إحدى مقابلاته. الخطوة الأولى لهذا المشروع الجيوسياسي الكبير ضمّ أجزاء من أوكرانيا بانفصال إقليم دونباس وضمّ شبه جزيرة القرم. تحقّق الضمّ في العام 2014. والانفصال أعلنه بوتين قبل يومين من بدء غزوه لأوكرانيا.
ألكسندر دوغين هو أحد أفراد حلقة سياسية مؤثّرة جدّاً في روسيا تُعرف بـ”نادي إيزبورسكي” السياسيّ الذي يضمّ عدداً من المقرّبين من فلاديمير بوتين، بينهم المتروبوليت تيخون، الراهب والأسقف والأب الروحيّ لسيّد الكرملين
لا يقتصر مشروع دوغين الجيوسياسي على أوروبا الشرقيّة. إنّما يشمل أوروبا الغربيّة أيضاً. في هذا الإطار يأسف لعدم قيام جوزف ستالين بضمّ أوروبا الغربيّة إلى الاتّحاد السوفياتيّ بعد الحرب العالميّة الثانية ومنع قيام الشراكة بين ضفّتي الأطلسي التي تجسّدت عسكريّاً في حلف شمال الأطلسيّ، الذي يهدّد روسيا اليوم. في هذا الإطار يأتي دعم نظام بوتين للتيّارات السياسيّة الشوفينيّة الأوروبيّة الرافضة للاتحاد الأوروبي وللتحالف مع واشنطن. وأبرز هذه التيّارات اليمين المتطرّف الفرنسي. فزعيمته مارين لوبان حلّت ضيفة على الكرملين قبل أربعة أسابيع من الانتخابات الرئاسيّة (2017) التي واجهت فيها إيمانويل ماكرون للمرّة الأولى. ولديها حساب ماليّ في أحد المصارف في موسكو. وهو ما شكّل لها إرباكاً خلال حملتها الانتخابيّة (2022). وفي هذا الإطار يمكن إدراج تدخّل موسكو السيبراني لصالح الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب في حملته الانتخابيّة (2016). فهذا الأخير كاد أن يزعزع حلف شمال الأطلسي والتحالف الأميركي – الأوروبي التاريخيّ.
يدعو دوغين في كتابه “النظريّة السياسيّة الرابعة” إلى عالم متعدّد الأقطاب. وهذا لن يتحقّق إلا بالحفاظ على السيادة الجيوسياسيّة للقوى الأوراسيّة، وهي: روسيا، الصين، الهند وإيران. ويعتبر أنّ هذه الدول هي الضامنة لحرّيّة شعوب الأرض!
كيف أثّرت أفكار ألكسندر دوغين على سياسات فلاديمير بوتين؟
عندما طُرِح عليه هذا السؤال استعار دوغين، الذي يتقن الفرنسية، تعبيراً للشاعر الفرنسي بول فيرلان (Verlaine)، وقال: “ليس المهمّ كيف. المهمّ أنّ كلّ أفكاري قد انتصرت”! وهذا ما يؤكّد تأثيره على فلاديمير بوتين. فهو يُسمّى “راسبوتين بوتين”.
إقرأ أيضاً: اغتيال دوغين في روسيا .. و”الشرير” الأوكراني
لا شكّ أنّ بوتين قرأ كتب دوغين، أو ربّما ملخّصات عنها. فرجال الاستخبارات لا يحبّون المطوّلات. يفضّلون التقارير. والأكيد أنّه استمع إلى نظريّته الجيوسياسيّة في “الإمبراطوريّة الأوراسيّة”.
* أستاذ في الجامعة اللبنانيّة