السيارة المفخخة التي انفجرت خارج موسكو نهاية الإسبوع الماضي وقتلت داريا دوغينا Darya Dugina، ابنة المنظّر القومي المثير للجدل ألكسندر دوغين، اعادت إلى الأذهان موجة السيارات المفخخة التي سادت في روسيا إثر إنهيار الإتحاد السوفياتي خلال التسعينات عاكسة طبيعة النزاعات بين العصابات. لكن هذا الإنفجار كان من طبيعة سياسية تتصل بشخصية المُستهدفة ووالدها.
في الواقع، كانت دارينا خاضعة للعقوبات، وقد وصفتها حكومة المملكة المتحدة بأنّها “تساهم على نحوٍ منتظم وعالي المستوى في نشر المعلومات المضلّلة في ما يتعلّق بأوكرانيا والغزو الروسيّ لأوكرانيا”. هناك حتماً افتراض واسع الانتشار بأنّ الهدف الحقيقي كان والدها. وفي كلتا الحالتين، كان من الممكن أن يكون في السيّارة مع ابنته لو لم يختَر في اللحظة الأخيرة العودة إلى المنزل بطريقة أخرى. لم يعلن أحد مسؤوليّته بعد، لكن في البيئة السياسية المشحونة في الوقت الحالي، يلوم الجميع الشرّير المفضّل لديهم (أي أوكرانيا).
عملياً، لا صلة مباشرة بين دوغين والرئيس الروسي فلاديمير بوتين. فهو مجرّد واحد من سلالة كاملة من “رجال الأعمال السياسيين” الذين يحاولون عرض خططهم ومبادئهم على الكرملين
كانت داريا شخصيّة بارزة في حدّ ذاتها، وهي صحافية تعمل لمنصّة إعلامية تقول واشنطن إنّها مملوكة لرجل الأعمال الروسي يفغيني بريغوزين Evgeny Prigozhin (لقبه طبّاخ بوتين)، وهو خاضع للعقوبات في الغرب لأنّه الأب الروحي لكلٍّ من مجموعة مرتزقة “واغنر Wagner” و’’troll farms’’ السيّئة السمعة على وسائل التواصل الاجتماعي، وهي مجموعة من الحسابات الإلكترونية التي تتدخّل في المسارات السياسية وفي صنع القرار، والتي تشجّع الحرب في أوكرانيا.
شخصية دوغين وصلته مع بوتين
عملية الإغتيال هذه دفعت بالسؤال عن الفاعلين وقدرتهم على شن هجوم داخل الدولة الأمنية الروسية؟. في المقابل، افترض آخرون أن هذه ضربة موجهة للكرملين: إمّا لأنّهم أرادوا جعل دوغين شهيداً رمزياً أو لأنّهم يخشون أن يقوم القوميون المتطرّفون مثله بالاحتجاج إذا ما تراجعت روسيا عن حربها في أوكرانيا.
عملياً، لا صلة مباشرة بين دوغين والرئيس الروسي فلاديمير بوتين. فهو مجرّد واحد من سلالة كاملة من “رجال الأعمال السياسيين” الذين يحاولون عرض خططهم ومبادئهم على الكرملين. كان لبعض الوقت، في عام 2014، مناسباً لتبرير سياسات الكرملين، أي مفاهيمه عن مصير روسيا الحضاري، ومكانتها كدولة أوروبية آسيوية، في سياق الاستيلاء على الأراضي في دونباس بأوكرانيا. وفجأة ظهر على كلّ قناة تلفزيونية، وكان كتابه “أسس الجيوبوليتيكا: مستقبل روسيا الجيوبوليتيكي” مدرجاً في المنهج الدراسي في أكاديمية هيئة الأركان العامّة، وقد عُرض عليه كرسي في MGU، في جامعة موسكو الحكومية، المعهد الأول للتعليم العالي في البلاد.
عملية الإغتيال هذه ، ستضيف إلى أسطورة دوغين، التي طوّرها بنفسه بجدّ واجتهاد. وهناك الكثير في الغرب سعداء بأخذه على محمل الجدّ، مثل وصفه بأنّه “عقل بوتين” أو “راسبوتين بوتين”. ومع ذلك، فهو ليس مؤثّراً بشكل خاص، ولم يكن أبداً مؤثّراً. وعلى الرغم من كل شيء، يبقى أنّ دوغين الأب كاتب منتج بشكل استثنائي، بغضّ النظر عن جودة كتبه، ومروِّج نشط لنفسه. بعبارة أخرى، يبدو أنّ هناك قدراً لا بأس به من المال في علامته التجارية من القوميّة الضحلة والصوفيّة.
اشتُهر دوغين على أنه يبيع كتبه للجمهور، وأفكاره للقيادة. وفي هذا السياق، اتقن فنّ قيادة الفكر بأثر رجعي. بعبارة أخرى، كان ينجح في استكشاف ما كان الكرملين على وشك القيام به، والدفاع عن أفعال السلطة بصوت عالٍ، ثمّ المطالبة بالاعتراف له بالفضل بما قدّمه من دعم. بشكل عامّ، وعلى الرغم من ذلك، فقد كان ذا فاعليّة في بيع نفسه لدوائر اليمين المتطرّف في الغرب، وهذا بالتأكيد يمنحه بعض القيمة لدى موسكو بما هو عامل تأثير، أكثر من بيع نفسه للكرملين.
من المحتمل أن نشهد بعض الاعتقالات المستعجلة في حادثة اغتيال ابنة دوغين. وستكون هناك من دون أيّ شكّ لقطات فيديو لضباط جهاز الأمن الفيدرالي يقتحمون شقّة جرى ترتيبها ببراعة
نظرة القوميين الروس لغزو أوكرانيا
هذه هي إذاً مفارقة دوغين، إنّه عالم أيديولوجي يحمل الشيء ونقيضه على طريقة الفيزيائي النمساوي إيرفين شرودنغر Erwin Schrödinger، فهو مهمّ وغير مهمّ في آن واحد. قد لا تكون لديه جاذبية حقيقية مع الحكومة، لكن قدرته على تقديم نفسه كمفكّر عميق تؤطّر أفكاره (غالباً ما تكون جنونيّة) تفكير الكرملين، فهذا يعني أنّه يُعتبر مهمّاً.
هذه هي الأسطورة التي من المرجّح أن تكون ذات مغزى في أعقاب مقتل ابنته. وبالفعل، يدعو القوميون الروس المتحمّسون إلى الانتقام، لكن بالنظر إلى أنّ الكرملين لا يعترف كما يبدو بوجود أيّ قيود على عمليّاته في أوكرانيا، فمن غير المرجّح أن يفعل أيّ شيء يتجاوز المستوى الرمزي. دوغين الميت كان يمكن أن يكون شهيداً قابلاً للتلاعب به واستثماره. أمّا دوغين الحيّ الغاضب، فقد يكون بطاقة جامحة. فالرجل الذي دعا ذات مرّة إلى امتداد روسيا من دبلن (عاصمة جمهورية إيرلندا) إلى فلاديفوستوك (مدينة روسيّة في أقصى الشرق)، من غير المرجّح أن يشعر بالهدوء. بل إنّ القوميّين الذين هم فعلاً غير راضين عن بوتين سوف يشعرون بأكثر من سبب للغضب، ليس لأنّ لديهم مشكلة معه في غزو أوكرانيا، بل بسبب قيامه بالغزو بشكل سيّئ للغاية.
مسرح الجريمة المُركب
من المحتمل أن نشهد بعض الاعتقالات المستعجلة في حادثة اغتيال ابنة دوغين. وستكون هناك من دون أيّ شكّ لقطات فيديو لضباط جهاز الأمن الفيدرالي يقتحمون شقّة جرى ترتيبها ببراعة مع بعض معدّات صنع القنابل، ومسدّس، وكتيّب لتعليم نفسك اللغة الأوكرانية، وبعض الدولارات الأميركية، وربّما يعثرون على مجلّد من أعمال شكسبير (على محمل الجدّ: استُعمل أحد كتب شكسبير كـ “دليل” على وجود مرتزقة بريطانيين يقاتلون من أجل أوكرانيا). لكنّنا، والروس كذلك، رأينا ذلك من قبل، وأكثر منه. ومن غير المحتمل أن يؤدّي هذا إلى إقفال القضية، أو بثّ الطمأنينة. بدلاً من ذلك، إنّها مجرّد إشارة أخرى إلى عدم الاستقرار، والضعف الباطني لنظام يحاول أن يبدو أنّه لا يُقهر.
وسواء أكان ذلك يعكس فشلاً خطيراً للدولة الأمنيّة الروسيّة، أو يدلّ على التوتّرات والتنافسات داخلها، فإنّه سيُقنع القوميّين بأنّ هذا نظام لا يلتزم بخطابه، وقد يكون أضعف ممّا يبدو. قد يكون القوميّون أقلّ عدداً وظهوراً من منتقدي بوتين الليبراليين، لكنّهم يميلون إلى أن يكونوا داخل الأجهزة الأمنيّة، ولنقل بصراحة، إنّهم يميلون لأن يكون معهم بنادق.
بتصرف عن مارك غاليوتي Mark Galeotti* – The Spectator
* البروفيسور مارك غاليوتي مؤلّف 24 كتاباً عن روسيا، آخرها هو “تاريخ موجز لروسيا” (2021).
لقراءة النصّ كاملاً اضغط هنا