تعيد الجهود الأوروبية لإحياء الاتفاق النووي ذكريات من العامين 2014 و2015، حين تزامنت المفاوضات النووية مع طفرة في إنتاج النفط الصخري الأميركي، فأسهم العاملان معاً في انهيار أسعار النفط إلى الثلث خلال أشهر قليلة.
في تلك الحقبة، دخلت إيران بنفسٍ صدامي. إذ كانت ناقلاتها محمّلة بالخام، وما إن رُفعت العقوبات حتى أغرقت السوق، ورفضت الدخول في نظام الكوتا الذي يحدّد مستويات إنتاج الدول الأعضاء في منظّمة أوبك.
اختلفت الظروف كثيراً منذ ذلك الحين، أقلّه على مستوى إدارة المعروض النفطي العالمي منذ تأسيس تحالف “أوبك بلاس” بقيادة السعودية وروسيا عام 2016، لكن يبقى السؤال مشروعاً عمّا ستتركه من أثر العودة المحتملة للنفط الإيراني إلى الأسواق.
تشير التسريبات الإيرانية إلى أنّ الاتفاق النووي سيسمح لطهران بضخّ خمسين مليون برميل من النفط الخام في الأسواق خلال الأيام المئة والعشرين الأولى بعد التوقيع، بمعدّل يقلّ قليلاً عن 420 ألف برميل يوميّاً. وهذا رقم لا يكفي بحدّ ذاته لقلب موازين العرض والطلب في سوق عالمية تستهلك أكثر من مئة مليون برميل يومياً، لكنّه سيشكّل البداية لتدفّق أكبر للنفط الإيراني إلى الأسواق، والموانئ الأوروبية تحديداً.
سيكون الحفاظ على تماسك تحالف “أوبك بلاس” ووحدته مهمّة ذات شأن، لكنّ الثابت أنّ الجميع بحاجة إلى الإدارة السعودية لتوازنات السوق النفطية، بمن فيهم إيران والولايات المتحدة وروسيا
ليس النفط الإيراني غائباً عن الأسواق على أيّ حال، فالعقوبات لم تمنع طهران من بيع نفطها إلى الصين وعدد من الدول الآسيوية، بل إنّ صادراتها تزايدت بشكل ملموس بغضّ نظر أميركي منذ وصول الديمقراطيين إلى البيت الأبيض. إلا أنّ المستجدّ في الأشهر الماضية كان اشتعال المنافسة بين إيران وروسيا في الأسواق الآسيوية. فالبلدان خاضعان للعقوبات، وكلاهما يقدّم الحسومات السخيّة للالتفاف عليها. وصل الأمر بإيران أن تبيع نفطها للصين في آب الجاري بأقلّ من خام برنت بـ11 دولاراً، وبأقلّ من خام أورال الروسي بثمانية دولارات.
هذه المنافسة حدّت من قدرة إيران على إيجاد أسواق غير رسمية لنفطها، فانخفضت صادراتها إلى 700 ألف برميل يوميّاً في تموز الفائت، وفق تقديرات الشركة الاستشارية SVB، بعدما كانت تقارب 810 آلاف برميل يومياً في حزيران. وانخفضت صادراتها إلى الصين تحديداً من 700 ألف برميل يوميّاً في حزيران إلى 500 ألف برميل يوميّاً في تموز.
روسيا وإيران: تبادل العقوبات
تدقّ ساعة المفاوضات النووية في فيينا فيما تدقّ ساعة أخرى في بروكسل لبدء سريان عقوبات أوروبية توقف استيراد النفط الروسي المحمول بحراً اعتباراً من كانون الأول المقبل. ما زالت أوروبا تستورد 1.2 مليون برميل من النفط الروسي المحمول بحراً، وهو ما يعادل ثلثي الكمّيات التي كانت تستوردها قبل اندلاع الحرب الأوكرانية. ولا شكّ أنّ القارّة العجوز تسابق الوقت لتوفير البدائل. فموسكو تمسك بورقة الغاز الطبيعي وتستخدمها بذكاء، فتوقف الإمدادات لدواعي الصيانة حيناً ثمّ تعيدها، لتعيق جهود الدول الأوروبية لرفع مخزوناتها إلى 90% قبل الشتاء. وفي غياب الغاز تزداد الحاجة إلى النفط والفحم لتشغيل محطّات الكهرباء والمصانع.
لعلّ هذا ما يفسّر الحماسة التي يبديها الأوروبيون لعقد الصفقة النووية مع إيران أكثر من الرئيس الأميركي جو بايدن نفسه، وهو الذي وضع إحياء اتفاق 2015 على رأس أولويّات سياسته الخارجية منذ أن دخل البيت الأبيض.
قدّم الاتحاد الأوروبي مسوّدة “نهائيّة” للاتفاق قال إنّها ليست للتفاوض، بل للقبول أو الرفض، وقدّمت طهران ردّها سريعاً بثلاثة تحفّظات ليست تفصيليّة، لكنّها غلّفتها بتصريحات إيجابية من وزير خارجيّتها حسين أمير عبد اللهيان. خرج مسؤول السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل للتعليق بإيجابيّة على الردّ الإيراني، حتى قبل أن يصل الردّ الأميركي. قال إنّ الردّ الإيراني “معقول” وبشّر باحتمال عقد اجتماع في فيينا هذا الأسبوع. وضع هذا التعليق الأميركيين تحت الضغط، فاضطرّت الخارجية الأميركية إلى نفي التأخير في الردّ، وإصدار تعليق مستعجل على الردّ الإيراني أشارت فيه إلى إسقاط طهران بعض مطالبها “غير المقبولة”، وأهمّها إسقاط الحرس الثوري من قائمة المنظّمات الإرهابية الأميركية، ثمّ نقلت “رويترز” عن مسؤول أميركي لم يشأ ذكر اسمه أنّ طهران تخلّت عن مطلب آخر هو إغلاق ملفّها لدى وكالة الطاقة الدولية.
وفي ضفة أخرى، كانت موسكو ترحّب بالردّ الإيراني، خلافاً لعرقلتها المحاولة السابقة للتوصّل إلى اتفاق في آذار الفائت، مع علمها أنّ عودة النفط الإيراني إلى السوق ستسحب منها ورقة في صراع الطاقة مع الأوروبيّين، وستزيد التنافس صعوبة في السوق الآسيوية.
التصريح السعودي
وسط تلك الأجواء، كانت أسعار النفط تتراجع بأربعة دولارات يوم الإثنين بعد الكشف عن اتصالات أجراها بايدن مع قادة فرنسا وألمانيا وبريطانيا، في مؤشّر إلى قرب التوصّل إلى الاتفاق مع طهران، إلّا أنّ تصريحاً من وزير الطاقة السعودي الأمير عبد العزيز بن سلمان لوكالة “بلومبرغ” أعاد الأمور إلى نصابها حين ذكّر مجدّداً بشيء من الثوابت الجديدة في إدارة السوق النفطية. وأحد هذه الثوابت وجود السعودية وروسيا معاً في قيادة تحالف “أوبك بلاس” الذي يستأثر بنصف الإنتاج النفطي العالمي تقريباً. وقد أكّد الوزير السعودي أنّ لدى هذا التحالف كلّ الأدوات والوسائل للحفاظ على توازن السوق، بما في ذلك إمكانية خفض الإنتاج في أيّ وقت وبطرق مختلفة، مذكّراً بقرارات مفصليّة من هذا النوع تمّ اتّخاذها في 2020 و2021.
الأهمّ في تصريح أمير الدبلوماسية النفطية أنّه أعطى إشارة إلى تصميم الرياض على صياغة اتفاقية جديدة تعطي أفقاً لاستمرار تحالف “أوبك بلاس” بعد 2022. ومن المهمّ الالتفات هنا إلى أنّ إيران المستثناة من نظام الكوتا حاليّاً، لا بدّ أن تؤخذ مستويات إنتاجها في الحسبان داخل أروقة التحالف إذا ما خرجت من العقوبات.
إقرأ أيضاً: الغاز: أوهام المليارات والانتصارات.. وحقائق الأرقام والتحديات
سيكون الحفاظ على تماسك تحالف “أوبك بلاس” ووحدته مهمّة ذات شأن، لكنّ الثابت أنّ الجميع بحاجة إلى الإدارة السعودية لتوازنات السوق النفطية، بمن فيهم إيران والولايات المتحدة وروسيا. فلا أحد يريد تكرار مغامرات عام 2014 و2020.