يتفرّد وليد جنبلاط بين السياسيّين اللبنانيين في استدعاء الكاريكاتير السياسي على الرغم من تراجع هذا الفنّ الصحافي مع تراجع الصحافة المكتوبة، بعدما كان الكاريكاتير يمتدّ من الجرائد إلى التلفزيون في دلالة واضحة على رسوخه في المشهدين الصحافي والسياسي. لكنّ واقع الحال أنّ “استدارات” وليد بك التي تُلهم الكاريكاتيريست وتسعفهم أحياناً في الخروج من الرتابة والتكرار هي بالغة الجدّيّة لأنّها أحد الأدلّة الواضحة على التحوّلات الإقليمية والدولية التي تحكم المشهد اللبناني في كلّ مرحلة من المراحل.
المقارنة بين وليد جنبلاط ووالده كمال لناحية أسلوب تعامل كلّ منهما مع مثل هذه التّحوّلات ليست راجحة ملزمة. فجنبلاط الأب وقف في وجه المعادلة الدولية والإقليمية التي رعت دخول القوات السورية إلى لبنان في العام 1976 فدفع حياته ثمناً لذلك. ومعلوم أنّ هذا الدخول لم يكن قراراً سوريّاً بحتاً، بل جاء من ضمن ترتيب إقليمي – دولي كانت واشنطن الطرف الرئيسي فيه. وأمّا وليد جنبلاط فهو لطالما ردّد القول المأثور: “عند صراع الأمم إحفظ رأسك”، وهو ما لم يفعله والده كمال الرجل الفريد في تاريخ السياسة اللبنانية. ولعلّ اغتياله قد علّم نجله درساً سياسيّاً راسخاً. فهو يدرك مخاطر معاندة المعادلات الدولية والإقليمية، أو بالحدّ الأدنى فهو يدرك حدود قدرته على معاندتها تبعاً لموازين القوى الداخلية والخارجية.
للتذكير فإنّ جنبلاط كان قد قال أمام الحشود التي زارت المختارة في الذكرى الـ87 لميلاد والده، في 6 أيلول 2004، أي بعد 4 أيّام على صدور القرار 1559 نتيجة التوافق الفرنسي الأميركي بشأن لبنان بعد قمّة النورماندي بين الرئيسين جاك شيراك وجورج بوش: “لا تخافوا، لم نعد وحدنا في العالم”. وهذه عبارة لكمال جنبلاط استحضرها نجله وليد في ذلك النهار للقول إنّ ثمّة معادلة دولية – إقليمية جديدة تجاه لبنان ستلاقي جهود المعارضة اللبنانية لعهد الرئيس إميل لحود، وبالتالي للوصاية السورية على لبنان.
استقبال جنبلاط لوفد الحزب هو بمنزلة إعادة تأكيد للتموضع الجنبلاطي الآنف الذكر، أو هو تأكيد على أنّ زعامة المختارة ليست في وارد الخروج على هذا التموضع
للمفارقة فإنّ رفيق الحريري دفع ثمن هذه المعادلة الجديدة، ولذلك فإنّ قول جنبلاط إنّ “السوريين دخلوا على دم كمال جنبلاط وخرجوا على دم رفيق الحريري”، يعني ما يعنيه لجهة أنّ الاتفاق كما الخلاف بين الدولة الإقليمية صاحبة النفوذ الأكبر في لبنان وبين القوّة الدولية الأقوى، أي أميركا، كلاهما خطر. فكمال جنبلاط اغتيل تحت سقف الاتفاق بين واشنطن ودمشق، ورفيق الحريري اغتيل في لحظة الخلاف بين هاتين العاصمتين الذي تزامن مع تدفّق النفوذ الإيراني نحو المشرق العربي إثر الغزو الأميركي للعراق وإسقاط نظام صدّام حسين.
المعادلة الحاليّة
هذا أمر بالغ الدلالة إذا ما قيس على الواقع اللبناني الحالي باعتبار أنّ لبنان محكومٌ حالياً بالمعادلة الدولية – الإقليمية الجديدة التي تفرضها مسارات المفاوضات النووية بين الولايات المتحدة الأميركية وإيران، والتي أصبحت أقرب من أيّ وقت مضى إلى لحظة الاتفاق بين الجانبين. لكن أيّاً تكن نتيجة هذه المفاوضات فإنّ الثابت فيها أنّ إيران باتت أكثر قدرة على فرض شروطها على أميركا، وأنّ واشنطن باتت أكثر استعداداً للتنازل أمام طهران. وهذا يعكس حقيقة موازين القوى الدولية والإقليمية في المنطقة حيث استطاعت إيران خلق وقائع عسكرية وأمنيّة وسياسيّة جديدة في الدول التي لها فيها نفوذ وازن، من العراق إلى سوريا فلبنان، فضلاً عن اليمن. وفي المقابل فإنّ أميركا كانت قد اتّبعت استراتيجية انسحابيّة من المنطقة في وقت استعادت موسكو حضورها القديم في دمشق. بينما تواصل الصين تمدّدها في المنطقة من خلال العقود الاقتصادية والأمنيّة والشراكات الاستراتيجيّة. وهذا كلّه تستفيد منه طهران في نهاية المطاف، ولا سيّما في ظلّ مناخات الحرب الروسية الأوكرانية.
لكن توخّياً للدقّة فإنّ جنبلاط لم يقُم باستدارة استراتيجيّة مثل تلك التي قام بها في أعقاب هجوم حزب الله على بيروت والجبل في 7 أيار 2008، الذي حصل في لحظة الانفتاح الغربي، وبالتحديد الفرنسي، على النظام السوري بالتزامن مع صعود الأدوار الإقليمية لدولة قطر. وهو ما تُرجم وقتذاك باستضافة العاصمة القطرية لـ”مؤتمر الدوحة” الذي كرّس موازين القوى الناتجة عن “7 أيار”. فاستقبال جنبلاط لوفد الحزب هو بمنزلة إعادة تأكيد للتموضع الجنبلاطي الآنف الذكر، أو هو تأكيد على أنّ زعامة المختارة ليست في وارد الخروج على هذا التموضع. وهذا التأكيد يأخذ كامل معناه إذا ما قيس على احتمالات تشكيل معارضة للحزب انطلاقاً من خطاب جنبلاط خلال الانتخابات النيابية الأخيرة ومن نتائج الانتخابات نفسها. لكنّ “وليد بك” تصرّف مرّة جديدة بموجب موازين القوى الداخلية والإقليمية – الدولية ولأسباب متّصلة أساساً بالجغرافيا السياسيّة لزعامته، وهي جغرافيا على تماس مباشر في الجبل وبيروت مع جغرافيا الحزب الأمنيّة والعسكرية.
رسائل الحزب
لكنّ فهم لقاء جنبلاط – حزب الله لا يستقيم إذا ما نُظر إليه من زاوية ما أراده جنبلاط منه، بل إنّ الأهمّ هو ما أراده الحزب منه وفي هذا الظرف بالذات. فبمقدار ما يؤكّد اللقاء عمق الفهم الجنبلاطي لطبيعة الوضع الجديد في لبنان في ضوء تطوّرات المنطقة، فهو يؤكّد في المقابل استراتيجية الحزب للتعامل مع المرحلة المقبلة في ضوء تلك التطوّرات. فالحزب يلعب من خلال زيارة وفد منه لجنبلاط لعبة مزدوجة. فمن ناحية هو يظهر استعداداً للتهدئة والانفتاح على خصومه، ومن ناحية ثانية فهو يوجّه رسالة “مشفّرة” إلى الداخل والخارج باعتبار أنّ استقبال جنبلاط لوفده يعبّر عن استسلام جنبلاطيّ أمام نفوذ الحزب المتنامي في لبنان. وبهذا المعنى فإنّ لقاء كليمنصو يمكن اعتباره رسالة تحذير من الحزب إلى خصومه مفادها: إمّا تتحلّون بالواقعية السياسية على غرار جنبلاط، وإمّا ستكونون عرضة لضغط الحزب وبالوسائل كلّها. وفي المحصّلة فإنّ اللقاء انطوى على رسالتين: الأولى تطمينيّة، والثانية ترهيبيّة، وهذه خطورته!
ثمّة أمرٌ آخر يستدعي التوقّف عنده في خطاب باسيل، وهو هجومه على سمير جعجع واتّهامه بالتفريط بـ”حقوق المسيحيّين”
للمفارقة أيضاً فإنّ أوّل مَن فهم رسائل الحزب كان حليفه جبران باسيل، إذ سارع إلى تقديم أطروحة مركّبة لرئاسة الجمهورية مفادها أنّ “هذه المرّة من دون أن نتنازل عن التمثيل قلنا إنّه يمكن تجييره لشخص نتوافق عليه ونمنع الفراغ الذي لا يحتمله البلد”. عمليّاً التزم باسيل بالمخرجات الرئاسية للقاء جنبلاط – الحزب، التي تتلخّص برفض “رئيس استفزازيّ”، فأخرج نفسه سريعاً من دائرة المرشّحين للرئاسة الأولى وكأنّه يعترف بأنّه رئيس استفزازيّ، من دون أن يتخلّى طبعاً عن دوره الأساسي في “التوافق” على الرئيس المقبل. لذلك فإنّ اللافت في خطاب باسيل ليس مضمونه وحسب، بل توقيته أيضاً، إذ إنّ صدوره بعد أيّام قليلة على انعقاد لقاء جنبلاط – الحزب يجعله استسلاماً باسيليّاً لتصوّر الحزب للرئاسة الذي عبّر عنه لقاء كليمنصو، باعتبار أنّ الحزب وجد في جنبلاط الطرف المسلم الذي يعوّض غياب سعد الحريري في رسم الخطوط العريضة لأيّ تسوية رئاسية.
باسيل خلط الأوراق
لكن بالموازاة ثمّة أمرٌ آخر يستدعي التوقّف عنده في خطاب باسيل، وهو هجومه على سمير جعجع واتّهامه بالتفريط بـ”حقوق المسيحيّين”، بينما منطلقات “خطاب الحقوق” الذي اعتمده التيار الوطني الحرّ منذ العام 2005 كانت تستدعي رفض باسيل تحديد المسلمين، أي الحزب وجنبلاط هذه المرّة، مواصفات الرئيس على قاعدة أنّ عدم استفزازيّته تتقدّم على حجم تمثيله الشعبي. ولعلّ أهميّة موقف باسيل تكمن في أنّه يخلط الأوراق على الساحة المسيحية، إذ يستبعد حتّى الآن فرضيّة عقد تفاهم بين التيار والقوات اللبنانية كما حصل في الـ2016 على قاعدة رفض طرح طرف مسلم أو أكثر مرشّحاً للرئاسة.
إقرأ أيضاً: ماذا يريد الحزب من جنبلاط إذا ما وقعت الحرب؟
فهل تقدُّم حظوظ فرنجية، في حال حصل، يقلب المعادلة؟ وعلى أيّ مقياس ستُقاس عدم استفزازيّة فرنجية؟ على مقياس غالبيّة المسلمين أم على مقياس الحزبين المسيحيَّين الأكبرَيْن، أي التيّار والقوات؟ وهل يبدي باسيل مرونة تجاه دعم الحزب لفرنجية، في حال حصل، لقاء ضمانات معيّنة؟ لكنّ باسيل يدرك أن لا ضمانات للصراع على الزعامة عند الموارنة، وخصوصاً أنّ الرجلين متحدّران من الشمال. وإذا كان باسيل وجعجع يدركان أنّهما خارج السباق الرئاسي، فإنّ المعركة بينهما هي على الاستحواذ على أكبر قوّة تأثير في الانتخابات الرئاسيّة، لكن في المقابل لا يمكن استبعاد تفاهمات رئاسيّة بينهما في حال استشعرا خطر انتخاب رئيس لا يوافق مصلحتهما، سواء كان فرنجية أو سواه، مع الأخذ في الاعتبار أنّ تأثير بكركي في الانتخابات الرئاسية لن يكون بالحجم الذي يريده البطريرك الراعي. لذلك كلّه فإنّ المشهد الرئاسي معقّد، وهو سيزداد تعقيداً مع الوقت إلى حين تبلور خريطة طريق إقليمية دولية لهذه الانتخابات، وهو ما لا يُرى بالعين المجرّدة بعد!