الإسلاموفوبية إسلاموفوبيتان. الأولى كارهة للإسلام، والثانية جاهلة للإسلام. وكلّ منهما ترفد الأخرى بمزيد من الأسباب وردود الفعل التي تعزّز الشعور بالكراهية.
عُقدت مؤتمرات ونُظِّمت لقاءات وأُلقيت محاضرات حول الإسلاموفوبية الكارهة للإسلام. ولكن لم تلقِ سوى أضواء خافتة وخجولة على الإسلاموفوبية الجاهلة للإسلام على الرغم من أنّ آثارها كانت أكثر خطراً وأشدّ تدميراً وأعمق تشويهاً لصورة الإسلام ولحقيقته.
يترجم هذه الإسلاموفوبية سلوك بعض المسلمين في أقطارهم، وفي الأقطار التي هاجروا إليها. علماً بأنّ ثلث المسلمين الذين يبلغ عددهم حوالي مليار ونصف مليار، يعيشون الآن في دول ومجتمعات غير إسلامية.
تنطلق هذه الترجمة من مفاهيم خاطئة تؤدّي إلى مواقف وتصرّفات خاطئة. ومن ذلك مثلاً ما ورد في القرآن الكريم من آيات: “إنّ الدين عند الله الإسلام”، و”من يبتغي غير الإسلام ديناً فلن يُقبل منه”.
الإسلاموفوبية إسلاموفوبيتان. الأولى كارهة للإسلام، والثانية جاهلة للإسلام. وكلّ منهما ترفد الأخرى بمزيد من الأسباب وردود الفعل التي تعزّز الشعور بالكراهية
الإسلام غير المحمّدي
يكمن الخطأ في فهم هذه الآية الكريمة في الاعتقاد بأنّ الإسلام هو ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلّم محمد بن عبد الله فقط وحصراً، علماً بأنّ القرآن الكريم يصف إبراهيم عليه السلام بأنّه أوّل المسلمين. كذلك فإنّ صفة الإسلام لله رافقت كلّ الدعوات الإيمانية، من إبراهيم انتهاءً بمحمّد عليهما السلام.
ويؤكّد هذا الخطأ قول رسول الله محمد عليه السلام: “إنّما بعثتُ لأتمّم مكارم الأخلاق”، أي ليتمّم المسيرة الإسلامية لله التي انطلقت مع إبراهيم. ولم يقل “لأبدأ”. إنّه آخِر الرسل والأنبياء المسلمين. وبه ومعه تُختتم رسالات السماء. ثمّ إنّ الإسلام الذي جاء به محمد عليه السلام لا يكفّر ولا يلغي ولا يطعن بالإيمان الذي دعا إليه من سبقه من الرسل والأنبياء. بل إنّه ذهب إلى أبعد من إقراره في قول القرآن الكريم: “ولتجدنّ أقربهم مودّة لِلّذين آمنوا الذين قالوا إنّا نصارى، ذلك بأنّ منهم قسّيسين ورهباناً وأنّهم لا يستكبرون”.
وذهب رسول الله إلى التعهّد بحماية المسيحيّين (وثيقة نجران) وإلى الدفاع عنهم (رسالة النبي إلى رهبان دير سانت كاترين في سيناء).
إنّ الاستشهادات القرآنية بموسى وعيسى وبأنبياء بني إسرائيل شاهدة أيضاً على ذلك.
يشكّل فهم هذه الثوابت القرآنية والإيمان بها أساساً لعلاقات أُخوّة مع المؤمنين بالأديان السماوية السابقة لرسالة الله التي حملها محمد عليه السلام. ولكن على العكس من ذلك، فإنّ سوء فهم هذا الإيمان يؤدّي إلى تكفيرهم وإلى استباحة مقدّساتهم وممتلكاتهم، كما فعل الإرهابيون باسم الإسلام في سورية والعراق أخيراً. ويتناقض هذا السلوك الإرهابي مع وصيّة رسول الله محمد عليه السلام إلى المسلمين: عدم استخدام حجر واحد من مبنى كنيسة في بناء بيت للمسلمين، احتراماً لها وإجلالاً.
لا يمكن التصدّي لإسلاموفوبية الكراهية من دون التصدّي أوّلاً لإسلاموفوبية الجهالة. فالإسلاموفوبيتان وجهان لحالة واحدة
مفاهيم مغلوطة.. إلى بلاد “الهجرة”
هذه المفاهيم المغلوطة والمشوّهة للإسلام يحملها بعض المهاجرين إلى دول العالم (أوروبا، الولايات المتحدة، كندا، أستراليا وأميركا الجنوبية)، ويتصرّفون على أساسها. من ذلك مثلاً تكفير كلّ مَن هو غير مسلم، والحكم عليه بأنّه من أهل جهنّم، والتعامل معه على هذا الأساس. مع أنّ الإسلام يقول إنّ الحكم لله، وهو الذي يحكم بين الناس، يوم القيامة، فيما كانوا فيه يختلفون. ثمّ هناك السلوك الاستفزازي لمشاعر غير المسلمين، وحتى لمشاعر المسلمين، في هذه المجتمعات. منها قطع الطرق العامّة لأداء صلاة الجمعة في شوارع المدن الأجنبية حيث تضيق المساجد بالمصلّين. ومنها رفع صوت الأذان إلى الصلاة، خاصة في الصباح الباكر، وهو ما يزعج جيران المسجد من غير المسلمين، إلى ما هنالك من سلوك وتصرّفات تقدّم مادّة تحريضية مجّانية لكراهية الإسلام وأهله.
يتلقّف هذا السلوك الشاذّ عن أصول الدين الإسلامي وتعاليمه المتصيّدون في مياه الكراهية العكرة ليوسّعوا دائرة الكراهية ويزيدوها حدّة.
وهنا لا بدّ من التوقّف أمام مرجعين:
– الأوّل هو كتاب جاك شاهين “Reel Bad Arabs” الذي يرصد ظاهرة تشويه صورة المسلم والعربي بشكل خاص في هوليوود، حيث تصوّره الأفلام السينمائية دائماً على أنّه إنسان دموي قاتل، سارق، غشّاش وغدّار. وهو كتاب صدر منذ أكثر من ثلاثة عقود. أي أنّه سابق لظاهرة الإسلاموفوبية المتوحّشة التي نعرفها اليوم.
– الثاني هو كتاب ناثان لين Nathan Lean رئيس مركز دراسات الإسلاموفوبية في جامعة جورج تاون بواشنطن وعنوانه: صناعة الإسلاموفوبية The Islamophobia Industry، وفيه يتحدّث عن عمل منسَّق تقوم به مجموعات من السياسيين والمثقّفين والقادة الدينيين والإعلاميين وخبراء التواصل الاجتماعي (الإلكتروني) لشيطنة الإسلام Demonize Islam.
تلتقي موجات الإسلاموفوبية الجاهلة للإسلام، مع موجات الاسلاموفوبية الكارهة له لتشكّلا معاً “تسونامي” من الكراهية يتجاوز محاولة التشويه إلى محاولة التدمير.
من هنا لا يمكن التصدّي لإسلاموفوبية الكراهية من دون التصدّي أوّلاً لإسلاموفوبية الجهالة. فالإسلاموفوبيتان وجهان لحالة واحدة.
تلتقي موجات الإسلاموفوبية الجاهلة للإسلام، مع موجات الاسلاموفوبية الكارهة له لتشكّلا معاً “تسونامي” من الكراهية يتجاوز محاولة التشويه إلى محاولة التدمير
“انتباه” قمّة كوالالمبور
أدركت هذه الحقيقة منظمة التعاون الإسلامي أثناء قمّة كوالالمبور، فعهدت إلى الأمين العام السابق للمنظمة الدكتور إحسان أوغلو تشكيل هيئة علمية إسلامية لمعالجة الأمر. شكّل الدكتور أوغلو الهيئة ودعانا إلى اجتماعين: الأوّل في إسلام آباد، والثاني في إسطنبول. تمّ في الاجتماعين وضع استراتيجية عمل منهجي تقوم على التواصل مع الجامعات العالمية ومع المؤسّسات والمرجعيات الدينية غير الإسلامية، وكذلك مع مراكز الأبحاث والدراسات، ومع المؤسّسات الإعلامية، لطرح مفاهيم الإسلام الحقيقيّة وعلاقة الإسلام مع نفسه ومع الآخر، بعيداً عن عصبيّة الجهل وسوء التوظيف.
لكن بعد انتهاء فترة انتداب الدكتور أوغلو توقّف العمل وتعطّل المشروع، ووجد المسلمون أنفسهم مرّة أخرى يدورون في حلقة مفرغة من إسلاموفوبية الكراهية وإسلاموفوبية الجهالة.
استمرّ ذلك وقتاً طويلاً إلى أن جرؤ العالم الإسلامي على مواجهة تحدّيات ما بعد انفجار العمليات الإرهابية التي ارتُكبت باسمه، فكانت:
1- مبادرات الأزهر الشريف (القاهرة) حول الحرّية الدينية والمواطنة وإسقاط مقولة الأكثرية والأقليّة.
2- مبادرة حكماء المسلمين (مراكش) حول المواطنة في مجتمع متعدّد الأديان استناداً إلى وثيقة المدينة المنوّرة.
3- مبادرة آل البيت (عمّان) حول الدولة الوطنية.
4- مبادرة جمعية المقاصد الإسلامية (بيروت) حول الحريّات الدينية والمواطنة.
5- مبادرة رابطة العالم الإسلامي (مكّة) حول الإسلام وعلاقات المواطنة مع غير المسلمين.
6- مبادرة أبو ظبي (بين بابا الفاتيكان وإمام الأزهر) حول الأخوّة الإنسانية.
7- مبادرات مركز الدوحة الدولي للحوار بين الأديان حول ثقافة الحوار وأسس العيش المشترك والمواطنة.
قدّمت هذه المبادرات مادّة فكرية علمية وفقهية جريئة وغنيّة تؤسّس لثقافة إسلامية حول فهم الذات، وفهم العلاقة مع الآخر بتكامل وليس بإلغائيّة. فالتكامل يقوم على المحبّة، فيما تقوم الإلغائيّة على الكراهية.
إقرأ أيضاً: قنبلة هيروشيما.. هل تكون الأخيرة؟
انطلقت هذه المبادرات الإسلامية من الإيمان بأنّ الله يكرّم الإنسان لذاته الإنسانية (ولقد كرّمنا بني آدم)، وأنّ الله الذي خلق الناس جميعاً من نفس واحدة، خلقهم مختلفين ودعاهم إلى التعارف، وأعطى ذاته الإلهية حقّاً حصرياً في الحكم بين الناس يوم القيامة.
تشكّل هذه القواعد الكليّة أساساً لأخوّة إنسانية تتجاوز كلّ شكل من أشكال الكراهية والكراهية المعاكسة. ذلك أنّ الكراهية هي في جوهرها نتيجة حكم بإدانة الآخر المختلِف. وهو حكم مبنيّ على الخطأ في فهم المشيئة الإلهية في خلق الناس من نفس واحدة، لكن مختلفين.