تدور الشكوك حول نوايا إيران الفعليّة من “المفاوضات النووية” مع كلّ جولة جديدة منها، حتى إنّه بات يتّضح تباعاً أنّ ذهاب الوفد المفاوض الإيراني إلى المحادثات النووية في فيينا لا يهدف إلى إتمام الصفقة مع الدول الخمس الكبرى. فالثابت بعد ثمانية عشر شهراً من التفاوض المتقطّع أنّ ما تسعى إليه إيران من المفاوضات الجارية حيناً في فيينا وحيناً آخر في الدوحة أو مسقط أو روما أو باريس، هو غير الذي ما تريده كلّ من أوروبا والولايات المتحدة الأميركية، وحتى كلّ من روسيا والصين.
كانت وما تزال الخطّة الإيرانية هي الحصول على السلاح الإنشطاري وتطوير وسائل نقله بواسطة الصواريخ الطويلة المدى، مع إمكانية توجيهها بالأقمار الاصطناعية. لذلك تولّت منظمة الطاقة الذرية الإيرانية تخصيب اليورانيوم والبلوتونيوم وصولاً إلى إنتاج سادس فلوريد اليورانيوم وامتلاكها الكميّة الضرورية منه لصنع القنبلة الذرية.ونتيجة ذلك أعلن رئيس هذه المنظمة محمد إسلامي أنّ إيران “لديها القدرة التقنيّة على إنتاج قنبلة ذرية”.
لكلّ من واشنطن وطهران مصلحة بإستمرار المفاوضات حتى ولو كانت غير ذي جدوى، ومن دون الكثير من النتائج. فهما لا يعلّقان كبير الأمل عليها، ويتوقّعان نهاية الاتفاق في العام 2025 حتى لو أُبرم قبل ذلك
تجلس إيران إلى طاولات المفاوضات في فيينا وغيرها من المدن مُظهرةً “مرونة شكليّة”، في حين يؤكّد وزير خارجيّتها حسين أمير عبد اللهيان على أنّ بدء إيران بضخّ الغاز في أجهزة الطرد المركزي جاء ردّاً على العقوبات الأميركية.
بموازاة أقوال وزير الخارجية، أعلن رئيس اللجنة الاستراتيجيّة للعلاقات الخارجية كمال خرازي (المستشار المقرّب من خامنئي) أنّه “باستطاعة إيران إنتاج قنبلة ذرية، وهي على العتبة النووية”. بعد خرازي، قال محمد جواد لاريجاني، المنظِّر الاستراتيجي ونائب رئيس القضاء السابق أن “لا أحد بإمكانه أن يمنع إيران من صناعة قنبلة نووية”.
لكنّ وزير الإستخبارات الأسبق محمود علوي كان قد ردّد عدّة مرّات بأنّ “المرشد علي خامنئي قال بوضوح في فتواه إنّ الأسلحة النووية تناقض الشريعة، وإنّ الجمهورية الإسلامية تعدّها محرّمة دينياً، ولا تسعى إلى حيازتها، لكنّ قطّاً محاصَراً يمكن أن يتصرّف بشكل مخالف لِما يفعله عندما يكون طليقاً، وإذا دفعت (الدول الغربية) إيران في ذلك الاتجاه، فلن يكون الذنب ذنب إيران”.
جاءت هذه الأقوال عندما كانت إيران تناور وتراوغ مع المفاوضين الغربيين، بينما هي في صدد تطوير قدراتها النووية ونقلها من مرحلة إلى أخرى أكثر تقدّماً. فكما قيل إيهاماً بأنّ المرشد يحرِّم امتلاك السلاح النووي، وأنّه أفتى بتحريم السلاح النووي،ها هي أصوات المرشد وأبواقه تعلن أنّها بصدد الطلب من خامنئي تعديل فتواه باتّجاه “التشبّث بالسلاح النووي” لأنّه يُدخل إيران في النادي النووي ويرفع من شأنها. وفي هذا السياق، نُسِبَ إلى النائب محمد رضا صباغيان بافقي المقرّب من المرشد قوله: “على العدوّ أن يعلم أنّه إذا استمرّ في وقاحاته وتهديداته، فسوف نطلب من المرشد تغيير الاستراتيجية وفتوى إنتاج الأسلحة النووية، وهذا سهل جدّاً على الشباب الإيراني”.
وفيما تستمرّ المراوغة الإيرانية على طاولة المفاوضات حتى وصولها إلى تخطّي العتبة النووية وامتلاكها للسلاح الانشطاري، فإن الدول الكبرى المُشاركة في مؤتمر المراجعة العاشر لمعاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية المنعقد في نيويورك تبحث كيفيّة الحدّ من انتشار السلاح النووي.
على الصعيد الداخل الإيراني، يسعى النظام إلى تهدئة أسواقه المحلية عبر بثّ أخبار الذهاب إلى المفاوضات مع الغرب، علّه يهدّئ تدهور عملة التومان أمام الدولار، ويخفض التضخّم
إذن، ما هي الغاية الإيرانية من مفاوضات تعرف طهران سلفاً أنّها عديمة الجدوى وغير مرغوب بنتائجها الضئيلة جدّاً؟
على الصعيد الداخل الإيراني، يسعى النظام إلى تهدئة أسواقه المحلية عبر بثّ أخبار الذهاب إلى المفاوضات مع الغرب، علّه يهدّئ تدهور عملة التومان أمام الدولار، ويخفض التضخّم، ويوهم الشعب الناقم أنّه بصدد إنجاح المفاوضات ما يعيد إيران ونفطها وغازها إلى الأسواق العالمية. ويبثّ الإعلام الإيراني الأوتوقراطي حملات إعلامية تركِّز على نجاحات وهمية، مرفقة بحملة اعتقالات واسعة ضد المعارضين من صحافيين وناشطين سياسيين ونقابيين. وفي الموازاة، يكثّف النظام خطواته لتطوير أسلحة نووية في منشآت فوق الأرض وتحتها على حساب لقمة عيش شعبه.
أمّا خارجيّاً، فتبتغي طهران من استمرار الدبلوماسية، حتى لو كانت من دون طائل، أن تستغل ضغط واشنطن على تل أبيب لتبقي الأخيرة تصرّفاتها وأفعالها تحت سقف “أولويّة الدبلوماسيّة والمفاوضات”، وتخفّف من عملياتها واغتيالاتها داخل الحدود الإيرانية. وفي الوقت نفسه، تسعى إيران أيضاً إلى تعطيل الضغوطات الأوروبية والعالمية بحيث تمنحها المفاوضات المزيد من الوقت والغطاء لمواصلة تقدّمها النووي .
من جانبهم، فإن الأميركيين يريدون من المفاوضات تجنب التصعيد السياسي ـ الديبلوماسي مع إيران وعدم فرض المزيد من العقوبات، وكذلك عدم تصاعد التوتّر لتجنّب أيّ عمل عسكري تقوم به طهران وقد يكون مكلفاً على واشنطن نتيجة لالتزاماتها تجاه تل أبيب وسائر الدول المجاورة.
لكلّ من واشنطن وطهران مصلحة بإستمرار المفاوضات حتى ولو كانت غير ذي جدوى، ومن دون الكثير من النتائج. فهما لا يعلّقان كبير الأمل عليها، ويتوقّعان نهاية الاتفاق في العام 2025 حتى لو أُبرم قبل ذلك.
إقرأ أيضاً: بعد غزّة: هل تشنّ إسرائيل “عملية استباقية” في لبنان؟
من جهتها، فإن إيران متمسّكة بامتلاك سلاح نووي، ومسرحيّات المفاوضات لن تغيّر أيّ شيء في هذا الصدد. لقد تمّت تجربة النظام الإيراني في العام 2015 ولم يكن أهلاً للثقة. فنظامه مبنيّ على هذه الأسس، وسياسة التوسّع جزء لا يتجزّأ من ولاية الفقيه، وأيّ اتفاق لن يمنع إيران من امتلاك سلاح نووي، بل قد يؤخّرها إن حصل، وأيّ تحرير للأموال بعد رفع العقوبات لن يُصرف على الشعب الإيراني الغارق في الفقر،بل على ميليشيات طهران التوسّعية. عام 2015 وما تلاه يبقى في الأذهان، وكلّ ممارسة تدفع ثمنها شعوب المنطقة يوميّاً.