منذ مئة عام ونيّف، استدعى جمال باشا “السفّاح” البطريرك الياس الحويّك إلى مقرّه في صوفر. التهمة معدّة سلفاً: التعامل مع دولة أجنبيّة (فرنسا). الخطّة: اعتقال البطريرك ونفيه إلى الآستانة. الهدف: إيقاف مساعيه في الداخل والخارج لإطعام شعبه الذي كان يموت جوعاً نتيجة الحصار الذي ضربته عليه السلطنة برّاً وبحراً.
ما أشبه اليوم بالأمس. يوقف “الطاغية” أسقفاً ينقل مساعدات للشعب الذي سرقته المنظومة الحاكمة وأفقرته وتركته فريسة الجوع واليأس القاتل.
لكنّ المسألة أبعد من توقيف مطران وحجز مساعدات بذريعة قانون “مقاطعة إسرائيل”. “الطاغية” يريد إيصال رسالة للبطريركية المارونيّة. كلّف غرفة العمليات المظلمة لديه بالتخطيط. فأصدرت هذه أمر العمليات التالي:
المهمّة: توقيف النائب البطريركي العامّ على أبرشية حيفا والأراضي المقدّسة للموارنة والمملكة الهاشميّة.
أظهر قرار توقيف المطران الحاج أنّ “الطاغية” لا يعرف البطريركية المارونيّة جيّداً
الزمان: عند عودته من فلسطين المحتلّة.
التهمة: مخالفة قانون “مقاطعة إسرائيل”.
التنفيذ: قاضٍ وجهاز أمنيّ.
صُدّقت الخطّة. أصدر القاضيّ القرار. وقام الجهاز الأمنيّ بتنفيذه.
قبل الغوص في أهداف الطاغية من وراء توقيف المطران موسى الحاج، يجب التأكيد على أنّ في المسألة مخالفةً للقانون وللعادات والأعراف.
في القانون، وفي 5 أيار الماضي، وفي ما خصّ نقل المطران الحاج مساعدات من فلسطين المحتلّة إلى لبنان، أصدر قاضي التحقيق العسكريّ فادي صوّان قراراً يقضي بـ”عدم اختصاص وعدم صلاحيّة القضاء العسكري اللبناني لملاحقته ومحاكمته جزائياً، سنداً للمادة 1060 من مجموعة قوانين الكنائس الشرقية الصادرة عن الفاتيكان سنة 1990 والنافذة في لبنان منذ 1991، والتي تمنح، حصراً، قداسة البابا في الفاتيكان حقّ محاكمة الأساقفة الملاحقين بقضايا جزائية”. وأكمل المطران رسالته الإنسانية بنقل المساعدات لشعبه الجائع والمريض.
أمّا في العادات والأعراف، فقد درجت العادة، عند ارتكاب رجل دين جرماً معيّناً، أن تُبلّغ مرجعيّته الدينيّة ويُصار إلى التعامل مع المسألة بحسب القانون العام والقوانين الكنسيّة، علماً بأنّ ما قام به المطران الحاج ليس جرماً. إنّه عمل إنسانيّ للتخفيف من آلام الشعب.
منذ العثمانيين
منذ سقوط السلطنة العثمانيّة لم يتمّ التعرّض لأسقف بهذه الطريقة. السوريون لم يفعلوها لا خلال الحرب ولا في فترة وصايتهم على لبنان. “الطاغية” فعلها بالأمس لإيصال الرسالة إلى البطريرك. لماذا؟
1- تشكّل بكركي اليوم خطّ الدفاع الأخير عن لبنان الدولة والصيغة والكيان والنظام والدور في المنطقة والعالم بوجه سيطرة حزب الله على الدولة وقرارها مستقوياً بسلاحه. من هنا كان الاستنكار الواسع من مختلف المكوّنات اللبنانيّة، بخاصة السُنّة، لِما جرى مع المطران الحاج ودعمهم لبكركي ومواقفها.
2- طرح البطريرك لـ “الحياد الإيجابي” في المذكّرة الوطنية التي أصدرها في شباط 2014، ثمّ قبل سنتين، ودعوته إلى عقد مؤتمر دوليّ لإخراج لبنان من “جهنّم” بعد فشل القوى الداخليّة في إنقاذ البلاد، أثارا قلق حزب الله لأنّهما دخلا في الأدبيّات السياسية اللبنانيّة والإقليميّة، وهما يتعارضان مع مشروعه الإيرانيّ.
3- إصرار البطريرك، منذ سنوات، على طرح قضيّة سلاح حزب الله غير الشرعيّ وسيطرته على البلاد وأخذها رهينة وتهديم علاقات لبنان العربيّة والدوليّة بخطابه السياسيّ وتدخّلاته العسكرية في الدول. وهو قال منذ أيام: “لا يحقّ لأيّ فئة، لا أمس واليوم ولا غداً، أن تنصّب نفسها محلّ جميع المرجعيات الدستوريّة وجميع المكوّنات اللبنانيّة وتقرّر مصير لبنان”.
4- إصرار البطريرك على استكمال التحقيق في جريمة مرفأ بيروت الذي أوقفه حزب الله وشريكه في الثنائي الشيعي بالتهديد والوعيد وبالتلاعب والتحايل على القوانين.
5- خشية حزب الله من ثبات بكركي في موقفها المناهض لـ “الاحتلال الإيرانيّ”. فتجربة البطريرك نصرالله صفير في موقفه المناضل ضدّ الاحتلال السوري للبنان ما تزال حاضرة.
6- إصرار البطريرك على إجراء الاستحقاق الرئاسي في موعده، وتحديده مواصفات الرئيس العتيد الذي يجب أن لا يكون “رئيساً منحازاً للمحاور”.
الطاغية لا يقرأ التاريخ
أظهر قرار توقيف المطران الحاج أنّ “الطاغية” لا يعرف البطريركية المارونيّة جيّداً. توقّع إخضاعها بتلويحه بتهمة الخيانة والتعامل مع العدوّ. فكان الردّ في بيان المجمع الدائم للأساقفة الموارنة الذي أكّد أنّ البطريركية المارونيّة ثابتة في مواقفها “التي لن تثنيها عنها أيّ ضغوط”.
أظهر أيضاً أنّه لا يعرف تاريخها. فما كان من بيان المجمع إلا أن أبرز بعض حقائقه بالقول: “إنّ الذين أوْحَوا من قَعرِ مناصِبهم بالتعرّضِ للمطرانِ الحاج وخَطّطوا وأمَروا ونَفّذوا عملَهم المدان، غاب عنهم أنّ ما قاموا به وما يقومون به لَم ولَن يؤثِّرَ على الصرحِ البطريركي الذي صَمَد في وجهِ ممالكَ وسلطناتٍ ودولٍ، فزالوا هم وبَقيت البطريركية في خِدمةِ الإنسان ولبنان والشرق”.
إقرأ أيضاً: الفاتيكان بكركي أولاً والباقي “فبركات إعلامية”
تعيدنا هذه الكلمات إلى حادثة استدعاء جمال باشا للبطريرك الحويك. فقبل وصول البطريرك إلى مركز “السفّاح” في صوفر، استُدعي هذا الأخير إلى الحرب. لم يحصل اللقاء. عاد البطريرك إلى كرسيّه في بكركي. ولم يعُد “السفّاح” إلى مقرّه في صوفر. خسرت الإمبراطورية العثمانيّة الحرب. تفكّكت وزالت. أمّا البطريرك فنجح في تأسيس دولة لبنان الكبير. والبطريرك الحالي يناضل من أجل إنقاذها.
أيّها الطغاة، اتّعظوا من دروس التاريخ.
* أستاذ في الجامعة اللبنانية