غداً ستحطّ Air Force One في الرياض. سيترجّل الرجل الثمانينيّ من على درجها. سيكون في استقباله العاهل السعودي وعدد من أمراء المملكة الشباب الذين تسلّموا زمام السلطة. وربّما سيكون على رأسهم وليّ العهد الشابّ! هي زيارة انتظرها العالم منذ أشهر. ويترقّبها اليوم. كُتب الكثير عنها. وسيُكتب أكثر. يتعامل معها الجميع على أنّها زيارة تاريخيّة. فهل تكون كذلك؟
حتى الساعة لا نعرف. غالباً ما تُصنّف الأحداث أو اللقاءات بالتاريخيّة بعد أن يمرّ عليها زمن وليس قبل أو حين حدوثها. لذا سنترك للتاريخ الحُكم: هل تكون زيارة جو بايدن في 15 و16 تموز للمملكة العربية السعودية تاريخيّة أم لا. لكنّ المتغيّرات الجيوسياسية التي ترافق الزيارة ستكون من دون أدنى شكّ تاريخيّة على مستوى المملكة والمنطقة والعالم. كيف؟
غداً ستحطّ Air Force One في الرياض. سيترجّل الرجل الثمانينيّ من على درجها. سيكون في استقباله العاهل السعودي وعدد من أمراء المملكة الشباب الذين تسلّموا زمام السلطة
– أوّلاً، على مستوى السعودية. منذ تعيين محمد بن سلمان وليّاً للعهد، بدأت المملكة مرحلة تأسيسيّة جديدة على كلّ المستويات الجيوسياسيّة:
1- على المستوى الاقتصادي الإنمائي برزت المتغيّرات العميقة في المملكة من خلال “رؤية 2030″، ومدينة “نيوم” المُنتظَرة، وانفتاح الاقتصاد السعودي وتطويره، ومشاريع الانتقال إلى الطاقة النظيفة، إذ بحلول عام 2030 سيكون في المملكة أكبر حقل إنتاج كهرباء بواسطة الطاقة الشمسيّة في العالم. ومشروع الشرق الأوسط الأخضر هو واحد من أكبر المشاريع للحفاظ على البيئة في العالم.
2- على المستوى الاجتماعي يقود الأمير الشابّ حملة انفتاح غير مسبوقة في المملكة المحافِظة دينياً واجتماعياً، عبر تغيير واقع المرأة السعوديّة، على الرغم من بعض الانتقادات التي وُجّهت إلى السلطات السعوديّة في هذا المجال، وعبر إقامة الحفلات الغنائية وافتتاح دور السينما وغير ذلك من الانفتاح على الفنون وأسباب الفرح.
3- على المستوى السياسيّ، تتربّع المملكة السعودية منذ سنوات على كرسي قيادة العالم العربي. هذا ما سيتجسّد في قمّة جدّة التي ستضمّ إضافة إلى زعماء دول مجلس التعاون الخليجي، الرئيس المصريّ عبد الفتاح السيسي، والملك الأردنيّ عبدالله بن الحسين، ورئيس الوزراء العراقيّ مصطفى الكاظميّ.
– ثانياً، تشهد منطقة الشرق الأوسط متغيّرات جيوسياسيّة كبيرة:
1- دخلنا زمن انتهاء اختلال الموازين في العالم العربي منذ أربعين عاماً، الذي استفادت منه إيران بتسهيلات أميركيّة، كي تفرض سطوتها على العراق وسوريا ولبنان. فمنذ سنوات تبدّلت القيادات في الدول العربيّة. في دول الخليج وصلت إلى السلطة قيادات شابّة. وفي هذا المجال تؤدّي المملكة مع وليّ العهد السعودي دوراً قيادياً.
2- بدأ العمل ويستمرّ في استعادة القرار العربيّ وإنهاء المرحلة التي كانت فيها المنطقة العربيّة ساحة صراع لقوى إقليميّة. وهذا ما تمثّل في القرار الخليجي – المصريّ بالوقوف بوجه النفوذ الإيراني في المنطقة، وبوضع حدّ لـ”العثمانيّة الجديدة” منذ بدايتها، وبعدم الامتثال للطلب الأميركي زيادة إنتاج النفط بعد بدء الغزو الروسي لأوكرانيا، وبرفض الاتفاق النووي الإيراني الذي حاولت واشنطن وأوروبا استعجاله إثر الغزو الروسي لأوكرانيا لرفع العقوبات عن إيران واستعادة إنتاجها للغاز.
3- تحوُّل إسرائيل، الدولة الواقعة جغرافيّاً في قلب المنطقة العربيّة والشرق الأوسط، من دولة عدوّة إلى دولة حليفة. وهذا تحوُّل جيوسياسيّ كبير. وقد بات ممكناً توقّع السعي إلى تتويج اتّفاقات “إبراهيم” (أبي المؤمنين) باتفاق سلام بين إسرائيل وبقية دول الخليج. ويمثّل مؤشّراً واضحاً الاجتماعُ الأمنيّ في شرم الشيخ، الذي ضمّ ضبّاطاً سعوديين وإسرائيليين، إضافة إلى جنرالات أميركيين وإماراتيين ومصريين، وسُرّبت أخباره إلى الصحف منذ أيام.
تحوُّل إسرائيل، الدولة الواقعة جغرافيّاً في قلب المنطقة العربيّة والشرق الأوسط، من دولة عدوّة إلى دولة حليفة. وهذا تحوُّل جيوسياسيّ كبير
– ثالثاً، المتغيّرات الجيوسياسيّة العالميّة:
1- أعادت حرب أوكرانيا الصراعات الجيوسياسية إلى قلب أوروبا. فيما خصّ الشرق العربيّ، عادت وبرزت أهمّيّته الاستراتيجية، وتحديداً في الحفاظ على أمن الطاقة العالميّ.
2- هذه الحرب في طريقها إلى تبديل النظام العالمي. صحيح أنّ الولايات المتحدة الأميركية وحلفاءها الأوروبيين نجحوا في إفشال مخطّط فلاديمير بوتين لاحتلال كامل أوكرانيا، لكنّ سيّد الكرملين نجح في السيطرة على شرق البلاد ووفّر الاتّصال البرّي بشبه جزيرة القرم. من جهتها، لن تتخلّى المملكة السعوديّة عن اتفاق “أوبك بلاس”، وستحافظ على علاقتها مع شريكها الرئيسي في هذا الاتفاق: روسيا، خاصة أنّها لاعب أساسيّ في الشرق الأوسط.
3- استيقظ “المارد الصيني” منذ عقود. وها هو ذا عملاقاً اقتصادياً وتجارياً على مستوى العالم. وهو اليوم الشريك الاقتصادي الأوّل للسعودية. يحلّ في المركز الأوّل في قائمة المستوردين منها (51 مليار دولار في 2021)، والأوّل بين المصدّرين إليها (صادراته 30 مليار دولار في 2021). بينما الولايات المتحدة الأميركية تحلّ في المركز الثاني بين المصدّرين للمملكة، ولا تظهر في قائمة أوّل عشرة مستوردين منها.
إقرأ أيضاً: الزيارة الثانية لبايدن إلى فلسطين: السياسة “الصهيونية” أولاً..
في 14 شباط 1945 وقّع فرانكلين روزفلت “اتفاق كوينسي” مع الملك عبد العزيز بن سعود مؤسّس المملكة العربية السعودية. كانت شراكة استراتيجية بين البلدين استمرّت قرابة ثمانين عاماً على الرغم من تعرّضها لبعض النكسات. هل تؤسّس زيارة جو بايدن لشراكة استراتيجية جديدة بين البلدين؟ هذا يتعلّق بالقراءة الواقعيّة له ولإدارته للمتغيّرات الجيوسياسيّة في المملكة والمنطقة والعالم.
* أستاذ في الجامعة اللبنانية