مع الانشغال اللبناني بنتائج الاستشارات النيابية الملزمة التي انتهت إلى تسمية رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي لتشكيل الحكومة المقبلة التي تُرجِّح معظم التقديرات أنّها لن ترى النور، تفضّل بعض الأوساط اللبنانية تصويب الأنظار إلى التطوّرات الدولية والإقليمية، والتحوّلات التي يمكن أن تفرضها في المشهد الجيوسياسي، وتأثيراتها على الأوضاع المعقّدة والمتشابكة في لبنان الغارق في أزمة مرشّحة للتفاقم بالتوازي مع توالي الاستحقاقات على قواه السياسية.
وإذا كانت الأكثريّة المتواضعة التي حصل عليها ميقاتي دليلاً على الوهن الذي أصاب المشهد السياسي اللبناني، فإنّ قراءة ملامح التحوّلات الإقليمية من قبل هذه الأوساط تهدف إلى استشراف قدرة البلد وقيادته على الإفادة من التحوّلات الخارجية لمعالجة أزمته الاقتصادية الماليّة والمعيشية، وإلّا فإنّ الضعف الذي أصابه سيجعله مرّة أخرى على قارعة طريق الأحداث المؤثّرة في المنطقة.
الدبلوماسية الفرنسية على تواصل دائم مع الولايات المتحدة ومع السعودية، وعلى اللبنانيين أن يصدّقوا أنّ لبنان ليس في أولويّات أيّ من الدولتين
زيارة بايدن السعوديّة والاصطفافات الإقليميّة
يقود التساؤل عن أبرز الأحداث الإقليمية من دون لبس إلى البحث عن أثر زيارة الرئيس الأميركي جو بايدن للمملكة العربية السعودية في 15 و16 تموز المقبل، والزيارات التمهيدية لها، التي قام بها وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان لكلّ من مصر والأردن وتركيا، على الاصطفافات في المنطقة، وبالتالي على مسار صراعات الدول التي يتأثّر بها لبنان. تنطلق قراءة انعكاسات التحوّلات الإقليمية من مجموعة عوامل طرأت منذ الإعلان عن زيارة بايدن وبرنامجها الذي يشمل اجتماعه مع قادة القمّة الخليجية المزمَع عقدها بالتزامن مع الزيارة، ومع قادة 3 دول فاعلة أخرى معنيّة، هي مصر والأردن والعراق.
انخفاض أسعار النفط
يشير هؤلاء إلى بعض العوامل المهمّة كالآتي:
– بدأت أسعار النفط العالمية بالانخفاض النسبي بين 2.5 و5 دولارات أميركية منذ الإعلان عن زيارة بايدن للسعودية والقمّة التي ستجمعه بقادة دول الخليج، بالإضافة إلى الدول العربية الثلاث مصر والأردن والعراق. ويخفّف هذا الانخفاض من التضخّم في الدول الغربية، ويساهم في دعم قطاع الطاقة فيها. وهو مؤشّر إلى احتمالات نجاح القمّة بحيث يحصل الجانب الأميركي على تدابير لخفض أسعار الطاقة العالمية التي ارتفعت بعد حرب أوكرانيا، ولمواجهة تحوّل الغاز الروسي إلى سلاح بيد موسكو تضغط به على أوروبا، مقابل ضغط عقوبات الأخيرة على روسيا. وترجِّح هذه الأوساط المنحى الإيجابي لزيارة بايدن المرتقبة، وأنّ العلاقة الأميركية السعودية ستعود إلى مناخ تأسيسها في عام 1945 بعد سنوات من المراوحة بين السلبية والجمود، وتحديداً منذ رئاسة باراك أوباما في 2008، ثمّ بعد انتخاب بايدن. وفي الترويج لمواضيع البحث المنتظَرة في الرياض تلفت الأوساط التي تترقّب انعكاسات الحدث إقليمياً، إلى أنّ عنوان مواجهة نشاطات إيران المزعزعة للاستقرار الإقليمي أخذت تطغى على عنوان اتفاق فيينا النووي، نظراً إلى تعثّره بسبب الموقف الأميركي السلبي من شروط ومطالب طهران برفع العقوبات عن الحرس الثوري.
تمتين تعاون الدول السنّيّة
– إنّ الجولة التي قام بها وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان على مصر والأردن وتركيا، وحضور الدولتين الأوليَيْن المنتظر لقمّة الرياض، هو مقدّمة لتمتين تحالف أو تعاون الدول السنّيّة في المنطقة بقيادة سعودية، في مواجهة ثقل إيران في المنطقة عبر أذرعها المتعدّدة من اليمن إلى العراق وسوريا ولبنان. وحضور هذه الدول لقمّة الرياض من موقع التفاهم على ما تطلبه من واشنطن، وإمكان تجاوب الجانب الأميركي معها، يزيح، بحسب أصحاب هذه القراءة، ما سُمّي “عقيدة أوباما” Obama doctrine)) القائمة على اعتبار التطرّف السنّيّ هو المشكلة قياساً إلى التطرّف الإيراني الشيعي، والطلب من دول الخليج التفاهم مع طهران. وهي عقيدة استفاد منها “حزب الله” (وإيران طبعاً)، فجُمّدت الملاحقات في حقّه في سياق ترطيب العلاقة الأميركية الإيرانية بعد اتفاق 2015 النووي.
الاستثمارات الاقتصاديّة في الدول الثلاث
– تنبئ الاتفاقات الاقتصادية التي عُقدت خلال جولة بن سلمان على الدول الثلاث، بأنّ الرياض حريصة على مساعدتها في معالجة أزماتها الاقتصادية التي تفاقمت بعد تأزّم الاقتصاد العالمي جرّاء الحرب في أوكرانيا، وبهذا توظّف الفائض المالي الهائل الذي حصدته من ارتفاع أسعار النفط في الأشهر الماضية في تقوية علاقاتها السياسية مع دول محورية لها أدوار إقليمية مؤثّرة. ففي مصر جرى توقيع 14 اتفاقاً استثمارياً بين البلدين بقيمة 7.7 مليارات دولار. وفي الأردن وبعد أيام من التوقيع في عمّان على اتفاق استثمار وتطوير بين صندوق الاستثمار الأردني وشركة الصندوق السعودي – الأردني للاستثمار لتنفيذ مشروع استثماري في قطاع الرعاية الصحية تبلغ تكلفته 400 مليون دولار، يأمل المسؤولون الأردنيون أن تسفر الزيارة عن إطلاق صندوق الاستثمارات العامّة السعودي استثماراتٍ بقيمة ثلاثة مليارات دولار في مشاريع بنية تحتية عملاقة، أبرزها مشروع سكك حديد بقيمة تناهز مليارَيْ دولار. أمّا في تركيا فجرى بحث سبل تسهيل حركة التجارة بين البلدين، وفرص الاستثمار وزيادة التواصل لتحويل هذه الفرص إلى شراكات ملموسة، ولا سيّما في مجال الطاقة. وقد تزامنت الزيارة مع تنظيم طاولة مستديرة بين اتحاد الغرف التجارية السعودية ومجلس العلاقات الاقتصادية الخارجية التركي في أنقرة اليوم، بحثت فرص الاستثمار بين المملكة وتركيا، بمشاركة 60 شركة سعودية وتركية و87 من أصحاب الأعمال، وذلك في سياق ما نصّ عليه البيان المشترك من “إطلاق حقبة جديدة من التعاون في العلاقات الثنائية السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية”، بعد مرحلة من الجفاء في علاقة البلدين.
لو كانت علاقة لبنان جيّدة…
تطرّق البيانان المشتركان بين الجانب السعودي وكلّ من مصر والأردن، خلافاً للبيان مع تركيا الدولة غير العربية، إلى كلّ عناوين الوضع الإقليمي من فلسطين إلى اليمن والعراق وسوريا والسودان وليبيا وملفّ إيران النووي، ونصّا على فقرة تتعلّق بلبنان شدّدت في القاهرة على دعم دور مؤسّسات الدولة، وإجراء الإصلاحات اللازمة، وألّا يكون لبنان منطلقاً لأيّ أعمال إرهابية وحاضنة للتنظيمات والجماعات الإرهابية التي تزعزع أمن واستقرار المنطقة، وألّا يكون مصدراً أو معبراً لتهريب المخدّرات. أمّا في عمّان فجاءت أكثر وضوحاً حين نصّت على “أهميّة إجراء إصلاحات شاملة تكفل تجاوزه لأزمته الحاليّة، وضرورة حصر السلاح بمؤسّسات الدولة الشرعية، والتزام “حزب الله” عدم التدخّل في الشؤون الداخلية للدول العربية، ووقف كلّ الممارسات التي تهدّد أمنها”.
يعلّق مصدر لبناني يراقب انعكاسات الحراك السعودي والإقليمي، ودعم الاستثمارات في الدول الثلاث، بالقول: “لو كانت علاقة لبنان بدول الخليج والسعودية على ما يرام، لكان حصل منها على مساعدات أضعاف ما وعد به صندوق النقد الدولي، نظراً إلى الفائض المالي الكبير الذي جنته جرّاء ارتفاع أسعار النفط”.
الجولة التي قام بها وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان هي مقدّمة لتمتين تحالف أو تعاون الدول السنّيّة في المنطقة بقيادة سعودية، في مواجهة ثقل إيران في المنطقة
ويتوقّع أصحاب القراءة المذكورة أن تخلق زيارة بايدن، وما سبقها وما يمكن أن يتبعها، ديناميّة جديدة للصراعات في المنطقة، وأن تقود إلى مسار تفرضه التحوّلات بعد حرب أوكرانيا وتداعياتها، يؤدّي إلى إضعاف المحور الإيراني، وبالتالي سوريا أيضاً، وينعكس على دور الفرقاء المقرّبين من طهران في لبنان.
مصدر فرنسيّ: لوقف لعبة انتظار أحداث الخارج
في كلّ الأحوال فإنّ الأسابيع القليلة الفاصلة عن موعد انعقاد القمّة الأميركية العربية المنتظَرة في الرياض، ثمّ تداعياتها، فضلاً عمّا تخبّئه انعكاسات الحرب الأوكرانية على المنطقة، كفيلة بتوضيح المشهد الإقليمي أكثر. لكن في الانتظار، فإنّ الأوساط الدبلوماسية الغربية تدعو اللبنانيين إلى الإقلاع عن المراهنات على الأحداث الخارجية، ولا تقرّ بالقراءات التي تقود إلى تغييرات في لبنان.
يشير مصدر دبلوماسي فرنسي في هذا السياق إلى أنّه لا يرى كيف يمكن لزيارة بايدن، ولتمتين تحالف الدول السنّيّة في المنطقة، أن يؤثّرا في لبنان. ويقول المصدر لـ”أساس ميديا” إنّ الدبلوماسية الفرنسية على تواصل دائم مع الولايات المتحدة ومع السعودية، وعلى اللبنانيين أن يصدّقوا أنّ لبنان ليس في أولويّات أيّ من الدولتين. وإذا كان بعض الفرقاء اللبنانيين سينتظرون زيارة بايدن للسعودية واجتماعاته فيها مع قادة دول الخليج والدول الثلاث الأخرى، فإنّ الحال الانتظارية قد لا تنتهي، فبعدها سيعلّقون أهميّة على نتائج الانتخابات النصفية في أميركا، ثمّ غيرها. سبق أن انتظروا انتخابات الرئاسة الأميركية، ومفاوضات فيينا وأحداثاً خارجية أخرى. وما حصل كان هدراً للوقت والفرص. ففي أثناء الانتظار حصل تدهور اقتصادي، وتناقصت أموال الاحتياطي في مصرف لبنان، وارتفع سعر الدولار، وزادت أزمة الوقود والكهرباء والطبابة والاستشفاء.
ويشدّد المصدر نفسه على القول إنّ “رسالتنا إلى اللبنانيين هي أن يقلعوا عن عادة انتظار الأحداث الإقليمية والدولية لأنّه لا مصلحة للبلد فيها، ولأنّنا نعتقد أنّ هذا يؤدّي إلى تحييد الأنظار عن الإجراءات المطلوبة في الداخل، والتي يمتنع معظم الطبقة السياسية عن اتّخاذ قرارات في شأنها على الرغم من أنّها من شروط تسريع الاتفاق مع صندوق النقد الدولي”.
إقرأ أيضاً: ميثاق استراتيجيّ جديد بين أميركا والسعوديّة
لبنان ليس أولويّة
يعتبر المصدر نفسه أنّ بين إلحاح لعبة الطاقة على الصعيد الدولي، وملف إيران النووي ودورها الإقليمي، توجد أولويات مختلفة عن قضية لبنان.
يستطرد المصدر بالقول إنّه لا يرى كيف أنّ ما يحصل إقليمياً سيغيّر في المشهد الداخلي إذا كان سيؤدي إلى إضعاف إيران وبالتالي “حزب الله”، لأنّه في النهاية مكوّن لبناني، وليس هو الوحيد الذي يعيق إقرار الإصلاحات وتطبيقها.
وإذ يقرّ المصدر بأنّ المعادلة التي يخلقها “حزب الله” في الحكم لضمان استمرار نفوذه على السلطة السياسية وإمساكه بالقرار، تشكّل عقبة أمام الإصلاحات، يشدّد على أنّ هذا الأمر هو واحد من أسباب عرقلة الإصلاحات وليس كلّها، لأنّ الفرقاء الآخرين يساهمون في ذلك أيضاً، ويستخدمون ذلك حجّة لتبرير تأخير القرارات الإصلاحية.