تزامنت احتفالات ميليشيا حزب الله بعيد ميلادها الأربعين مع حدثين كاشفين لنتائج هذا المسار الأربعينيّ.
ففيما كانت الماكينة الإعلامية والتعبويّة للحزب تمارس أعلى مستويات نفخ وتكبير المنجزات، وتذهب بعيداً في سبغ الأدوار التاريخية على هذا المسار، وتتذاكى في تدبيج “سرديّة لبنانويّة” لدور وموقع الحزب في تاريخ البلد، كانت المحكمة الخاصة بلبنان تُصدر أحكاماً جديدة على عنصرين إضافيّين من عناصر الميليشيا في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط 2005، بعدما حكمت على عنصر ثالث في 2020.
بموازاة ذلك أيضاً، كان الحزب يداري بالكثير من الارتجال والتبرير، قعوده عن المقاومة والقتال والتحرير بمواجهة “الاستفزازات” الإسرائيلية في ملفّ ترسيم الحدود البحرية مع لبنان، وبالتالي ترسيم حدود الثروات الغازيّة، وحدود الأدوار المستقبليّة لدول حوض شرق المتوسط.
ها هو لبنان المقاومة أمامكم وأصدق صوره، شهيّة بيئة حزب الله الحارّة للإعلان يوميّاً: “نعم قتلنا رفيق الحريري”
في عيده الأربعين يستوي الحزب بما لا يدع مجالاً للشكّ على منصّة واضحة:
أوّلاً، قاتل أهمّ رئيس وزراء مرّ في تاريخ لبنان منذ تأسيسه وصاحب المشروع الأكثر رؤيويّة وانشداداً نحو “المستقبل” بكلّ مندرجاته وشروطه.
وثانياً، مقاومة لفظيّة تجاه إسرائيل لا تُجيد سوى الصراخ بشعارات فقدت الكثير من جاذبيّتها وقدرتها على إثارة أيّ حماسة حقيقية حتى عند جمهورها.
لا يتعمّد هذا التوصيف إغفال الترسانة الصاروخية والسلاحيّة لحزب الله التي يُقرّ بها خصومه قبل حلفائه ورعاته. بيد أنّ الانتباه واجب أنّ هذه الترسانة لا وظيفة لها في أيّ شأن من شؤون اللبنانيين وحقوقهم ومصالحهم، ولا قرار لأصحابها “اللبنانيّين” في تفعيلها خارج ما يقرّره مموِّل الصواريخ وراعيها في طهران.
نواطير أحراش الصواريخ
هي وظيفة أشبه بوظيفة أمناء المخازن، ما صارته وظيفة حزب الله. نواطير أحراش الصواريخ التي تزرعها وتسقيها إيران، وهي وحدها مَن يقرِّر وجهة استثمار محصولها وتوقيته.
ولو أخذنا في الحسبان مسألة تجارة المخدِّرات وغسل الأموال التي تمتدّ من أميركا اللاتينية إلى غرب إفريقيا وصولاً إلى الضاحية الجنوبية لبيروت، سنكتشف أنّ ما بدأ قبل أربعين عاماً فرقة ثوريّة مسلّحة من إفرازات الثورة الخمينيّة عام 1979، تحوَّل إلى كارتيل هائل هو الأهمّ بين كارتيلات الجريمة المنظّمة التي أفرزتها “تحوّرات” الثورة الخمينيّة وانتقالها من جمهوريّة ثورية إسلامية إلى دولة تحكمها منظّمة عسكرية بعمامة، هي الحرس الثوري الإيراني.
نعرف ويعرف حزب الله ويعرف الإسرائيليون أنّ أيّ حرب مقبلة بين إسرائيل والحزب، لن تحصل وفق حسابات اللبنانيّين، ولا بسبب الدفاع عن أيّ من مصالحهم أو حقوقهم، ولا لتحرير أرض أو مياه. فهذه حرب إمّا أن تقرّرها إيران لمصالحها، وإمّا تمنعها للأسباب نفسها. وتقع هذه المعرفة في صلب دوافع الانتقال بالاستراتيجية الإسرائيلية من استراتيجية التلهّي بمقارعة الأدوات، إلى استراتيجية “الأخطبوط” وضرب الرأس مباشرة في طهران، كما هو حاصل عبر تكثيف الهجمات الإسرائيلية الناجحة داخل إيران.
فقد قرّرت تل أبيب أن لا طائل من استمرار اللعب بشروط نظام الملالي للّعبة، التي تعطيه حصانة دولتيّة وهامشاً كبيراً لنفي ما يرعاه من أفعال وسياسات ضدّ إسرائيل عبر حزب الله وحماس والجهاد الإسلامي وغيرهم.
طبعاً لا تلغي هذه التطوّرات التهديدات التي يمثّلها حزب الله لإسرائيل، كذراع إيرانية، لكن عملياً يبقى النصيب الأكبر من القلق هو لأناس كرفيق الحريري ولقمان سليم وما بينهما. هؤلاء هم مَن يطاردهم القلق بجرعات أكبر بما لا يقاس من إسرائيل، بعد أن استوى الحزب قاتلاً شرساً في الداخل و”صابراً بصيراً” على الحدود حيث تُلزمه سرديّته بأن يكون.
ولعلّ الأكثر تهافتاً في صورته، هو ادّعاء أنّ وظيفة سلاحه هي حماية ثروات لبنان تحت سقف الدولة وما تحدّده الدولة.
فكي نصدّق أنّ للحزب وسلاحه أيّ دور مستقبليّ في حماية مقدّرات لا تزال في علم الغيب، ينبغي علينا أن نتطلّع بعين فاحصة إلى الدور الذي لعبه سلاح الحزب حيال مقدّرات ماضية اندثرت. فليس من باب التجنّي القول إنّ سرعات الانهيار الاقتصادي في لبنان ترافقت مع سرعات تضخّم حصّة حزب الله في القرار اللبناني منذ عام 2005. ولو حسبنا الأثر الاقتصادي لخيارات وسياسات وقرارات حزب الله من حرب تموز 2006 مروراً بالسابع من أيار 2008 والانقلاب السياسي على نتائج انتخابات عام 2009، ثمّ الدخول “السياسي” في الحرب السورية عام 2011 والعسكري بعدها بقليل، ثمّ الحرب في اليمن عام 2015، وما بين هذا وذاك حزمة الاغتيالات وتعطيل المؤسّسات والاقتصاد الموازي وصولاً إلى فرض انتخاب ميشال عون على كلّ اللبنانيين عام 2016، لَتبيّن لنا أنّ ما خسره لبنان يقارب 200 مليار دولار، أي 80% من القيمة الاقتصادية للثروة الغازية المحتملة!! ولا أُدخل في هذه الحسبة الأكلاف المعنوية الفلكيّة التي تتّصل بسمعة لبنان وصورته والتي ستحتاج إلى عقود من الترميم، يكون فيها العالم قد سبقنا بأشواط إضافية!
كيف يمكن للسلاح، الذي بدّد منذ عام 2005 ثروات كانت قائمة، أن يدّعي أيّ صلة جدّية بحماية ثروات مستقبليّة؟
إقرأ أيضاً: عيب!
في عيده الأربعين يبدو الحزب وقد حقّق رؤية محمد رعد الذي صدح يوماً من على أحد المنابر أنّه يريد لبنان الذي يشبه المقاومة لا لبنان “الملاهي والصفقات”.
ها هو لبنان المقاومة أمامكم وأصدق صوره، شهيّة بيئة حزب الله الحارّة للإعلان يوميّاً: “نعم قتلنا رفيق الحريري”.
هي أربعون حزب الله و”أربعون” بلد كان اسمه لبنان.