قريباً في العاصمة السّعوديّة الرّياض، سيكتب وليّ العهد الأمير محمّد بن سلمان الفصل الثّاني من اتفاق “كوينسي” التاريخي الذي توصّل إليه الأميركيون مع السعوديّين في 14 شباط 1945، وذلك على متن الطرّاد USS Quincy، بين الملك المؤسّس عبد العزيز آل سعود والرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت العائد من مؤتمر يالطا في حينه. وقد ظلّ الاتفاق سارياً حتّى وصول الرئيس جو بايدن إلى البيت الأبيض مطلع العام الماضي.
في منتصف الشّهر المُقبل، يصلُ الرّئيس الأميركيّ إلى المملكة العربيّة السّعوديّة، محطّته الرّئيسيّة في “جولته” التي تشمل “تعريجة” على إسرائيل والضّفّة الغربيّة، مختَتِماً عامين من تدهور العلاقات بين المملكة والولايات المُتّحدة.
خلال السّنة الماضية، وحتّى أسابيع قليلة خلت، حطّ في الرّياض موفد تلوَ آخر، بدءاً بمنسّق الشّرق الأوسط في مكتب الأمن القوميّ بريت ماكغورك، وصولاً إلى مُستشار الأمن القوميّ جايك سوليفان ومدير وكالة الاستخبارات الأميركيّة (CIA) ويليام بيرنز، مروراً بمبعوث بايدن إلى اليمن تيموثي ليندركينغ. لم يستطِع كُلّ هؤلاء أن يغيّروا من نظرة محمّد بن سلمان للعلاقات بين الرّياض وواشنطن، ولا استطاع أحدهم أن يرفع إنتاج النفط لتهدئة الأسعار، التي رفعت ضغط بايدن وفاتورة المواطن الأميركي.
يقول المصدر إنّ إدارة بايدن ستؤكّد أنّها لا تريد، أقلّه في الوقت الحالي، أن تُفتحَ خطوط تواصل مع النّظام السّوريّ على المستوى السيّاسيّ
باتَ يُمكن القول إنّ رؤية محمّد بن سلمان للعلاقات بين الرّياض وواشنطن انتصرت. استطاع وليّ العهد السّعوديّ أن “يجلبَ” سيّد البيت الأبيض إلى أرضِ الحرمَيْن، على الرّغم من تصريحات بايدن الانتخابيّة التي أعلن فيها نيّته ورغبته وقدرته على جعل السّعوديّة دولةً “منبوذة”. وها هو يسعى إلى أن يحطّ رحاله على أرضها، ليقيمَ فيها يوميْن متتاليَيْن.
تكمن أهميّة زيارة بايدن للرّياض في توقيتها ومضمونها. إنّها تتزامن مع حدثيْن رئيسيَّيْن:
الأوّل: تراجعت احتمالات التّوصّل إلى اتفاقٍ بين إيران والولايات المُتحدة في مفاوضات فيينا. وشهدت الأيّام الأخيرة تراشقاً “نوويّاً” بين الوكالة الدّوليّة للطّاقة الذّريّة، ونظيرتها الإيرانيّة. فقد أدانت الأولى قيام طهران بإخفاء معلومات عن نشاطاتٍ نوويّة سرّيّة. فيما قامت الثّانية بالرّدّ على الإدانة بإعلان تركيب أجهزة طرد مركزيّة متطوّرة لتسريع تخصيب اليورانيوم.
الثّاني: استمرار ارتفاع أسعار النّفط العالميّة بفعل الحرب الرّوسيّة – الأوكرانيّة التي انعكست تضخّماً في الاقتصاد الأميركيّ، تلته نقمة مُتصاعدة من النّاخبين الأميركيين في وجه إدارة بايدن والحزب الدّيمقراطيّ قبل 4 أشهر من الانتخابات النّصفيّة.
أمّا مضمون الزّيارة ففيه محطّتان بالغتا الأهمّيّة:
الأولى: هي اللقاء الثّنائي الذي سيجمع الأمير محمّد بن سلمان بالرّئيس الأميركيّ، والذي سيُسلّم فيه بايدن لوليّ العهد محمد بن سلمان برؤيته للعلاقات الثّنائيّة، التي لن يكون أساسها بعد اليوم “الأحاديّة الأميركيّة” في التحالفات.
لقد اختار بن سلمان في رؤية 2030 تنويع مصادر الاقتصاد بعيداً عن الاعتماد التّامّ على النّفط. وقد باتَ واضحاً أنّه اختار أيضاً التنويع في تحالفاته الدّوليّة. صارَ بإمكان بايدن أن يحجزَ للنّسر الأميركيّ مقعداً في الرّياض إلى جانب الشّراكات الاستراتيجيّة التي عقدتها السّعوديّة مع كُلّ من غريمَيْه في آسيا وأوروبا، التّنّين الصّيني والدّبّ الرّوسيّ.
في هذا السياق لا بدّ من الانتباه إلى تصريح وزير الطّاقة السّعوديّ الأمير عبد العزيز بن سلمان من قلب العاصمة الرّوسيّة، فيما تحثّ واشنطن دول “أوبك بلاس” على ضخّ المزيد من النّفط وعزل موسكو، بأنّ العلاقات بين أكبر مصدرين للطاقة في العالم (أي السّعوديّة وروسيا) “دافئة مثل الطقس في الرياض”.
يحمل كلام الأمير عبد العزيز رسالةً واضحةً إلى من يعنيهم الأمر في البيت الأبيض بأنّ مصالح السّعوديّة تتقدّم على أيّ مصلحة أخرى في كلّ الحسابات
يحمل كلام الأمير عبد العزيز رسالةً واضحةً إلى من يعنيهم الأمر في البيت الأبيض بأنّ مصالح السّعوديّة تتقدّم على أيّ مصلحة أخرى في كلّ الحسابات، وأولى هذه المصالح مسألة أسعار النّفط، على حدّ قول دبلوماسيّ سعوديّ لـ”أساس”.
الثّانية: مُشاركة بايدن في اجتماع خليجيّ – عربيّ موسّع، سيضمّ قادة دول مجلس التّعاون الخليجيّ وجمهوريّة مصر العربيّة ومملكة الأردن وجمهوريّة العراق. يريد بايدن من هذا الاجتماع أن يُطمئنَ حلفاءه العرب الذين فقدوا الطّمأنينة بعد الخطوات الأميركيّة تجاه إيران.
الحلف الجوّيّ ضدّ إيران
سيُطلق بايدن مظلّة حمايةٍ جوّيّة من خلال تحالف دفاعيّ بين العرب وإسرائيل، كان “أساس” أوّل من كشف عنه في 24 آذار الماضي، و4 حزيران الحاليّ، قبل أن تؤكّده صحيفة Wall Street Journal في التاسع من الشهر الحاليّ.
يقول مسؤول أميركيّ في مكتب الأمن القوميّ لـ”أساس” إنّ بايدن يريد أن يوجّه رسالةً إلى طهران عن مدى التزام بلاده، التي ستقود هذا الحلف الدّفاعيّ، بحماية حلفائها. يدعو المسؤول نفسه إيران إلى أن تُدركَ أنّ المظلّة ليسَت جوّيّة فقط، بل إنّ الدّولة التي تقود الحلفَ (أي أميركا) هي أقوى دولة نوويّة على وجه الأرض.
ما لم يُرِد المسؤول الأميركيّ قوله هو أنّ إسرائيل هي الأخرى دولةٌ نوويّة، وتدخل في هذا الحلف أيضاً.
ظهرت أولى بوادر التحالف الدّفاعي بين العرب وإسرائيل مع كشف الإعلام الإسرائيلي عن نصب تل أبيب بطّاريات دفاعٍ جوّيّ في دولة الإمارات ومملكة البحرين.
يتظهّر هذا الحلف أكثر فأكثر مع استمرار المساعي السّعوديّة والأميركيّة لإنهاء الحرب في اليمن التي ستكون إحدى أبرز محطّات زيارة بايدن للسعوديّة، وهو ما يشير إلى أنّ واشنطن تسعى إلى ردع إيران في المنطقة بالتنسيق مع دول المنطقة، بعيداً عن النّزاعات التي قد تؤثّر على هذا الرّدع.
إقرأ أيضاً: بايدن يدفن “فيينا”.. ويبارك “حلفاً جوّيّاً” ضدّ إيران
يكشف المسؤول الأميركيّ أيضاً أنّ بايدن سيبحث الملفّ السّوري مع الأمير محمّد بن سلمان. في هذا الإطار، يقول المصدر إنّ إدارة بايدن ستؤكّد أنّها لا تريد، أقلّه في الوقت الحالي، أن تُفتحَ خطوط تواصل مع النّظام السّوريّ على المستوى السيّاسيّ. وكذلك الأمر بالنّسبة للحوار مع إيران، ما دامت الأخيرة لم تلتزم بعد بالاتفاق النّوويّ.
هي زيارة ستُسيل الكثير من الحبر، وستكون محطّ أنظار العالم بأسره. سيَنظر إليها بايدن من زاوية مصالحه النّفطيّة – الانتخابيّة. لكنّ السّعوديّة سترى أنّها تكتب فصلاً جديداً في أساس العلاقة بين قصر اليمامة والبيت الأبيض.