الممثّل والمفكّر: زيلينسكي وأشرف غني.. قصّة رئيسين

مدة القراءة 7 د

قامت وكالة الاستخبارات الأميركية بإجراء مراجعات بعد الإخفاقات بشأن تقدير الموقف في أفغانستان وأوكرانيا. وحسب وكالة أسوشيتدبرس الأميركية فإنّ التقدير بشأن ما إذا كان الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي سيكون نموذجاً لونستون تشرشل في المواجهة أو أشرف غني في الهروب، انتهى إلى أنّه سيكون أشرف غني جديداً، وأنّه سيلجأ إلى الهروب.

 

زينب كرزاي.. ورولا غني

حين سقط حكم طالبان في عام 2001، تطلّع الشعب الأفغاني إلى حقبة جديدة تصبح فيها أفغانستان دولة طبيعية. أصبح حامد كرزاي رئيساً للبلاد، فاستقبل المثقّفون الأفغان رئاسة كرزاي بتفاؤل كبير، فالرئيس الجديد درس في إحدى كلّيّات العلوم السياسية بالهند، وحصل على درجة الماجستير في العلاقات الدولية.

تطلّعت نساء أفغانستان إلى السيّدة الأولى الجديدة زينب كرزاي، آملة أن تعيد ما تستطيع من حقوق المرأة التي تلاشت في عهد طالبان. لم تظهر السيدة زينب سيّدةً أولى في أيّ وقت، ولم يكن لها وجود في الحياة العامّة، حتى خرج الرئيس كرزاي من السلطة عام 2014.

على خلاف الوضع في أفغانستان، كان الوضع في أوكرانيا. في أفغانستان مهّدت واشنطن طريق طالبان

في ذلك العام وصل إلى السلطة الرئيس البروفيسور أشرف غني. زادت مساحة التفاؤل بشأن الرئيس الجديد، الأكثر تعلُّماً من كرزاي، والأعلى خبرةً في المؤسسات الدولية، والأكثر حضوراً في جامعات العالم.

كانت مساحة التفاؤل أكبر كثيراً لدى النساء الأفغانيات، حيث ظهرت سيّدة أفغانستان الأولى رولا غني إلى جوار الرئيس، ثمّ ظهرت وهي تلقي الخطابات، وبعد ذلك تابعها الشعب وهي تقوم بأنشطة كثيفة تستهدف تمكين المرأة الأفغانية وتعزيز حقوقها.

هاجم الخصوم كوْن السيدة الأولى في أفغانستان لبنانية مسيحية، لكنّ الهجوم راح يتراجع بمرور الوقت، ونجحت السيّدة رولا سعادة، خرّيجة الجامعة الأميركية في بيروت، في إضفاء صفة حداثيّة على قصر الرئاسة الأفغاني.

في صيف 2021 تبخّر كلّ شيء، حيث دخلت حركة طالبان إلى القصر، وبدَا كلُّ ما كان وكأنّه لم يكن!

راحت أفغانستان تهرول على الطريق الدائري، لتعود إلى نقطة الصفر من جديد. لقد تساقط بعضهم من فوق إطارات الطائرات وهم يقاومون ويحاولون. وبعد قليل تمّ إلغاء كلّ ما تحقّق بشأن المرأة، وتعليمها، ومشاركتها في الحياة العامة، ووجد الأفغان أنفسهم بعد 20 عاماً من الوجود الأميركي وقد عادوا للسقوط في الثقب الأسود الذي يبتلع كلّ شيء!

 

120 ثانية أمام الرئيس

كان الرئيس الأفغاني أشرف غني من بين الأفضل تعلُّماً بين حكام العالم، فلقد درس في جامعة كولومبيا، وقام بالتدريس في جامعتَيْ بيركلي وجونز هوبكنز، وتولّى رئاسة جامعة كابول. ثمّ إنّه مفكّر كبير كتب المقالات في كبريات صحف العالم، وعمل في مناصب بارزة في البنك الدولي والأمم المتحدة.

لم ينعكس ذلك التحصيل العلمي الرفيع والخبرة الدولية الواسعة في أيّ شيء داخل قصر الرئاسة، فلقد تمدّدت حركة طالبان حتى أسقطت النظام، وهرب البروفيسور أشرف غني، وسط اتّهامات من نائب الرئيس بأنّه جلب العار للبلاد، واتّهامات أخرى بأنّه يسرق ملايين الدولارات.

نفى أشرف غني الاتّهامات الماليّة، وقال مستشاره إنّه غادر بملابسه فقط. ولاحقاً روى الرئيس غني لإذاعة “بي بي سي” وقائع يوم الهروب الكبير يوم 15 آب 2021. قال غني: “استيقظتُ ولم أكن أعرف أنّ هذا هو آخر يوم لي في أفغانستان، لأنّ طالبان كانت قد قالت في ذلك الصباح إنّها لن تدخل كابول، لكنّها غيّرت رأيها بعد ساعتيْن، وقرّرت الدخول. وافقتُ على سفر زوجتي رولا، ومستشاري للأمن القومي، وقرّرت الذهاب إلى وزارة الدفاع. لكنّ قائد الحرس الرئاسي جاءني وقال لي: إذا اتّخذنا أيّ موقف، فسيتمّ قتلنا جميعاً، وأمهلني دقيقتين لاتّخاذ القرار.

قرّرت المغادرة، ولمّا كنّا في الجوّ، قلت له: نذهب إلى خوست أو جلال آباد، فقال لي: لقد سقطت المدينتان. قلت: فلنغادر أفغانستان.

لا أريد سيّارة أجرة

درس الرئيس فولوديمير زيلينسكي القانون في إحدى جامعات أوكرانيا، لكنّه عمل في حقل التمثيل والإنتاج. زيلينسكي الممثّل الكوميدي، الذي حضر الرئيس بوتين أحد عروضه، أغواه دوره رئيساً للبلاد في مسلسل “خادم الشعب”، فأسّس حزباً يحمل اسم المسلسل، ثمّ صار رئيساً بالفعل.

زيلينسكي ليس رونالد ريغان، ذلك أنّ زيلينسكي هو ممثّل فقط، أمّا ريغان فلم يكن ممثّلاً بارزاً فحسب، بل كان قائداً نقابيّاً، وحاكماً لولاية كاليفورنيا، ومرشّحاً محتملاً للرئاسة لعدّة سنوات. ولا يمكن وضع الممثّليْن زيلينسكي وريغان في سلّة واحدة.

كان تقدير الاستخبارات الأميركية والروسية معاً أنّ زيلينسكي سيهرب، وأنّه لن يمكث في كييف أكثر من 48 ساعة، وسيكون بمنزلة أشرف غني جديد.

فاجأ زيلينسكي العالم بالصمود والمواجهة، إذ ارتدى الزيّ العسكري وقرّر الحرب، ولمّا عرضت عليه مؤسسات غربية المساعدة في هروبه، قال: لا أريد سيّارة أجرة، بل أريد أسلحة. لم يخَف زيلينسكي من قوات النخبة الروسية التي حاولت حصار كييف، ظنّاً منها أنّ السلطة مآلها السقوط السريع، وراح يتحدّث طوال الوقت عن ضرورة التسليح ومواصلة الحرب حتى الانتصار.

 

الغرب ليس حلّاً.. الغرب هو الحلّ

بعد 90 يوماً من الهروب قال الرئيس الأفغاني السابق أشرف غني: لقد كان أكبر أخطائي هو ثقتي بالشراكة الدولية.

منذ بداياته في الحياة العامّة، وقبل تولّيه السلطة بعقود كان أشرف غني يتشكّك في نوايا الغرب تجاه بلاده، وكان يرى أنّ الغرب يعطي السلاح للفصائل الأفغانية لا للحكومة.

بعد خروج الاتحاد السوفيتي عام 1989 كان رأي البروفيسور غني أنّ الغرب يساعد في إشعال حرب أهلية بين الأفغان، وطالب الولايات المتحدة في مقال شهير نشره في صحيفة “لوس أنجلوس تايمز” بأن تساعد كابول بالاقتصاد لا بالسلاح.

أصبح أشرف غني رئيساً، لكنّه لم يستفِد ممّا كان يكتب ويقول، ومرّة أخرى قال بعد السقوط: “الشراكة الدولية كانت أكبر الأخطاء”. إنّ خلاصة ما ذهب إليه غني في مراجعاته: “الغرب ليس حلّاً”.

على خلاف الوضع في أفغانستان، كان الوضع في أوكرانيا. في أفغانستان مهّدت واشنطن طريق طالبان، حيث سبق للرئيس دونالد ترامب التفاهم مع الحركة، وواصل الرئيس جو بايدن التفاهمات حتى انسحاب آخر جندي أميركي أمام طالبان. في حرب أوكرانيا كان موقف واشنطن مغايراً، فقد وقفت أميركا إلى جانب أوكرانيا، وقدّمت دعماً غير محدود للرئيس زيلينسكي، ولم تتوقّف حركة المال والسلاح باتجاه كييف على مدار الساعة.

لم يكن لدى الرئيس أشرف غني جيش حقيقيّ لمواجهة طالبان، وكان لدى زيلينسكي جيش يحلّ في المركز الـ22 عالمياً. لكنّ أشرف غني لم ينجح في استثمار سنوات حكمه الثلاث في عمل شيء. وحسب الكاتب الباكستاني أحمد راشد الذي يعرف أشرف غني منذ 30 عاماً، كان الرئيس الأفغاني كريهاً ومغروراً، وكان متغطرساً تجاه مواطنيه الأفغان. إنّه لم يستطِع إقناع الأفغان بمشروعه، حتى إنّ شقيقه حشمت غني قد ترك أخاه، واتّهم إدارته بالفساد، ثمّ انضمّ إلى طالبان للقتال ضدّ أخيه الرئيس!

 

قصّة رئيسيْن

لقد انهارت أفغانستان بسبب عدم دعم الغرب لأشرف غني، لكنّ أوكرانيا هي الأخرى تنهار على الرغم من دعم الغرب لزيلينسكي. إنّ المعركة الاستراتيجية بين الغرب وروسيا لم تُحسم بعد، لكنّ المعركة بشأن أوكرانيا بدت نتائجها واضحة، وهي احتلال شرق البلاد، وتدمير مقدّرات الدولة، وتهجير نصف السكان. وحسب المفكّر الأميركي نعوم تشومسكي فإنّ واشنطن تريد أن تحارب حتى آخر أوكراني.

إقرأ أيضاً: حرب أوكرانيا.. صوت آخر مقبل من الغرب

إنّها ليست قصة رئيسيْن، بل قصة كارثتيْن، في كلتيهما كان الطرف الثالث حاضراً، ثمّ كان شاهداً على الانهيار.

قولاً واحداً: أن تبني حسابات قوّتِك على أساس الدعم الخارجي فهذا خطأ، وأمّا أن تخوض حرباً استناداً إلى قوّة الآخرين فهذه جريمة.

 

* كاتب وسياسيّ مصريّ. رئيس مركز القاهرة للدراسات الاستراتيجيّة. عمل مستشاراً للدكتور أحمد زويل الحائز جائزة نوبل في العلوم، ثمّ مستشاراً للرئيس المصري السابق عدلي منصور.

له العديد من المؤلَّفات البارزة في الفكر السياسي، من بينها: الحداثة والسياسة، الجهاد ضدّ الجهاد، معالم بلا طريق، أمّة في خطر، الهندسة السياسية.

مواضيع ذات صلة

تشدّد الرّياض: عودة عربيّة إلى نظام إقليميّ جديد؟

توحي نتائج القمّة العربية – الإسلامية بأوجه متعدّدة لوظيفة قراراتها، ولا تقتصر على محاولة فرملة اندفاعة إسرائيل العسكرية في المنطقة. صحيح أنّ القمّة شكّلت حاضنة…

الحرب الأهلية: هواجس إيقاظها بصورٍ كريهة

 اللغو اللبناني حول حظوظ البلد بارتياد آفاق حرب أهلية جديدة، ارتفع. قد يكون هذا الارتفاع على وسائل التواصل الاجتماعي سببه “شامت” بالوضع أو رافض لـ”الرفق”….

الرياض: حدثان اثنان لحلّ لبنانيّ جذريّ

في الأيّام القليلة الماضية، كانت مدينة الرياض مسرحاً لبحث جدّي وعميق وجذري لحلّ أزمات لبنان الأكثر جوهرية، من دون علمه، ولا علم الباحثين. قسمٌ منه…

الحزب بعد الحرب: قليل من “العسكرة” وكثير من السياسة

هل انتهى الحزب؟ وإذا كان هذا صحيحاً، فما هو شكل اليوم التالي؟ وما هي الآثار السياسية المباشرة لهذه المقولة، وكذلك على المدى المنظور؟ وما هو…