حرب أوكرانيا.. صوت آخر مقبل من الغرب

مدة القراءة 5 د

لم يعُد صوت الرئيس جو بايدن هو الصوت الوحيد المقبل من الغرب. منذ بداية الغزو الروسيّ لأوكرانيا، كان صوت أوروبا هو صوت واشنطن، حيث الهدف الواحد: دعم أوكرانيا حتّى هزيمة روسيا، وخروجها من الجغرافيا، وربّما خروجها من التاريخ. وطوال المئة يوم الأولى من الحرب كانت تصريحات بوريس جونسون وإيمانويل ماكرون وأولاف شولتز ومعظم أصوات القارّة العجوز هي لغات متعدّدة في خطابٍ واحد.

 

من ترامب إلى كيسنجر

بدأت أصوات مقبلة من الغرب تعلن عن نفسها، وتواجه الصوت السائد. كان الرئيس دونالد ترامب واحداً من تلك الأصوات المرتفعة عبر الأطلسي، إذ قال: “بسبب غباء ما نقول ونفعل، تدمّرت أوكرانيا، وتفتّتت إلى أشلاء، وقد يذهب العالم إلى حرب عالمية ثالثة”، ثمّ قال متباهياً: “أنا الرئيس الأميركي الوحيد في القرن الحادي والعشرين الذي لم تأخذ روسيا خلال حكمه شيئاً. ففي عهد بوش الابن فقدوا جورجيا، وفي عهد باراك أوباما فقدوا القرم، وفي عهد جو بايدن فقدوا كلّ شيء”.

يقدِّم الرئيس السابق، والمحتمل تجديد رئاسته، دونالد ترامب، طرحاً بديلاً، وهو أنّه لو كان في السلطة لَما وصلت الأمور إلى ذلك، ولَما توسّعت روسيا مرّة أخرى، وأنّ سياسات الرئيس بايدن هي التي قادت إلى “فقدان كلّ شيء”.

وصل بومبيو إلى نتيجة مفادها: “بايدن وليس بوتين هو من جعل الحياة الأساسية لا يمكن تحمّلها”

كان ترامب محظوظاً. فقد كرّر السياسي الأميركي الأشهر هنري كيسنجر في منتدى دافوس في أيار 2022، التحذير الذي سبق أن أطلقه ترامب، من انفلات الأمور، ومن الدخول في حرب عالمية جديدة. لكنّ كيسنجر زاد على ترامب مطالبته بعدم امتداد الحرب لأكثر من ذلك، وإلغاء استراتيجية الغرب التي تهدف إلى إذلال روسيا. ثمّ راحَ يذكِّر بدور روسيا الكبير في توازن القوى في أوروبا، على مدى 400 عام.

لكنّ الأجرأ والأخطر في حديث كيسنجر هو دعوته أوكرانيا إلى الاعتراف بوجود روسيا في القرم، وإقامة حكم ذاتي في منطقة الدونباس، حيث الجمهوريّتان الجديدتان، وإنهاء الحرب حتّى لا تصبح الأمور أكثر سوءاً.

 

مايك بومبيو شولتز

انضمّ وزير الخارجية الأميركي السابق مايك بومبيو إلى صوت ترامب وكيسنجر، وقال ساخراً: “عندما فرضنا عقوبات على النفط الإيراني انخفض الريال في طهران، وانخفض سعر الطاقة عندنا، وعندما فرض بايدن عقوبات على روسيا ارتفع سعر الروبل في روسيا، وارتفع سعر الطاقة عندنا”.

وصل بومبيو إلى نتيجة مفادها: “بايدن وليس بوتين هو من جعل الحياة الأساسية لا يمكن تحمّلها”. بعد قليل أتى صوت آخر من برلين. إنّه صوت الزعيم الألماني أولاف شولتز، الذي تحدّث في منتدى دافوس داعياً إلى إقامة عالم جديد متعدّد الأقطاب، ومتعدّد مراكز القوى، وهو ما علّقت عليه المتحدّثة باسم الخارجية الروسية بأنّه يكرّر ما سبق أن طرحته موسكو، في عهد وزير خارجيّتها الشهير يفغيني بريماكوف. ثمّ طرحه الرئيس بوتين على مدى أكثر من 15 عاماً. وهكذا قامت روسيا بتأصيل رؤية ألمانيا بشأن إنهاء العالم الأحاديّ القطبيّة، الذي أُسِّس عقب انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991، وإقامة عالم متعدّد الأقطاب والمراكز.

ربّما تكون المرّة الأولى التي تتحدّث برلين بوضوح بشأن إنشاء نظام عالمي جديد لا تنفرد أميركا بقيادته. وهو طرح يصبّ في مصلحة رؤية كيسنجر بشأن “عدم إذلال روسيا”، ويتجاوزه بالدعوة إلى وقف قيادة واشنطن الأحاديّة.

 

نيويورك تايمز وشينزو آبي

ذهبت هيئة تحرير صحيفة “نيويورك تايمز” إلى أنّ تحقيق أوكرانيا نصراً حاسماً هو أمر غير واقعي، وأنّ الواقع يقتضي أن تتفاوض أوكرانيا مع روسيا، وأن تستعدّ لاتّخاذ قرارات صعبة في أثناء التفاوض.

هيئة تحرير الصحيفة الأميركية الكبرى تطلب من كييف باسم الواقعية، أن تستعدّ للتنازل عن أراضٍ أوكرانية مقابل إنهاء الحرب، واتّخاذ قرارات صعبة لحماية أوكرانيا من مزيد من الانهيار. لقد كان هذا أيضاً هو رأي الزعيم الياباني السابق شينزو آبي، الذي تحدّث إلى مجلّة “الإيكونوميست”، وانتقد الإدارة الأوكرانية للأزمة، قائلاً إنّه كان يمكن أن يعلن الرئيس زيلينسكي أنّ بلاده لن تنضمّ إلى الناتو، وأن يعطي حكماً ذاتياً واسع النطاق في إقليم الدونباس شرق البلاد، وينهي الأزمة. لكنّه لم يفعل. وقال آبي إنّ الرئيس بايدن لديه نفوذ عند زيلينسكي ويمكنه إقناعه بذلك.

 

النداء الجديد

هكذا، وفي توقيت واحد تقريباً، كان دونالد ترامب وهنري كيسنجر ومايك بومبيو وأولاف شولتز وشينزو آبي يتحدّثون لغة واحدة، لكنّها لغة مختلفة عن لغة الرئيس بايدن، أو لغة الغرب التي سادت مئة يوم من الحرب.

ثمّة أصوات في الكونغرس وبرلمانات أوروبا تقول إنّ الرئيس زيلينسكي ليس بالرئيس الديمقراطي الذي يجب دعمه. وهي أصوات تتماهى مع موجة جديدة من “إلقاء اللوم” على الرئيس الأوكراني، بعد موجة جارفة من التعاطف العالمي.

يشعر العالم بالخوف الشديد من أن تكون حرب أوكرانيا هي بكاملها المعركة الأولى وحسب في حرب عالمية. ويحبس العالم أنفاسه كلّ يوم وهو يسمع تصريحات قادة كبار بشأن إمكانية استخدام السلاح النووي، وهو أمر ظلّ غائباً تماماً لعقود طويلة، ولم يكن يسمع الناس به إلّا في وسائل الإعلام ومشاهد السينما.

إقرأ أيضاً: 

أكبر أخطار استمرار الحرب في أوكرانيا ليس محنة الغلاء التي اجتاحت العالم، أو كارثة نقص الغذاء التي تهدّد ملايين البشر، ولا وقائع الحرب التي قتلت وأصابت وهجّرت نازحين ولاجئين، وأعطبت ودمّرت أحياء ومدناً وموانئ ومطارات، لكنّه الخوف من الحرب التي يمكن أن تلي الحرب. خوف من أنّ العالم يتمتّع بالسيّء، لأنَّ الأسوأ مقبل.

لا تزال الحكمة واردة، ولا يزال الحلّ ممكناً. ولا يغفر التاريخ لِمَن يفهم متأخّراً.

 

* كاتب وسياسيّ مصريّ. رئيس مركز القاهرة للدراسات الاستراتيجيّة. عمل مستشاراً للدكتور أحمد زويل الحائز جائزة نوبل في العلوم، ثمّ مستشاراً للرئيس المصري السابق عدلي منصور.

له العديد من المؤلَّفات البارزة في الفكر السياسي، من بينها: الحداثة والسياسة، الجهاد ضدّ الجهاد، معالم بلا طريق، أمّة في خطر، الهندسة السياسية.

مواضيع ذات صلة

الصراع على سوريا -2

ليست عابرة اجتماعات لجنة الاتّصال الوزارية العربية التي عقدت في مدينة العقبة الأردنية في 14 كانون الأوّل بشأن التطوّرات في سوريا، بعد سقوط نظام بشار…

جنبلاط والشّرع: رفيقا سلاح… منذ 100 عام

دمشق في 26 كانون الثاني 2005، كنت مراسلاً لجريدة “البلد” اللبنانية أغطّي حواراً بين وليد جنبلاط وطلّاب الجامعة اليسوعية في بيروت. كان حواراً باللغة الفرنسية،…

ترامب يحيي تاريخ السّلطنة العثمانيّة

تقوم معظم الدول التي تتأثّر مصالحها مع تغييرات السياسة الأميركية بالتعاقد مع شركات اللوبيات التي لها تأثير في واشنطن، لمعرفة نوايا وتوجّهات الإدارة الأميركية الجديدة….

الأردن: 5 أسباب للقلق “السّوريّ”

“الأردن هو التالي”، مقولة سرت في بعض الأوساط، بعد سقوط نظام بشار الأسد وانهيار الحكم البعثيّ في سوريا. فلماذا سرت هذه المقولة؟ وهل من دواعٍ…