بين ليلة وأخرى، أمعنت الليرة اللبنانية بانهيارها إلى درجات غير مسبوقة. قبل أن تعود بعد ساعات إلى حيث كانت. لم يفسّر الاقتصاديون هذه الظاهرة علميّاً (الانهيار الأخير)، أو أقلّه الاقتصاديون غير المسيّسين (أصحاب الأجندات).
يفتح هذا الباب على سؤال أكبر: هل انهيار لبنان، منذ بدأ، هو مسار مدروس في إطار قرار سياسي؟ أم أنّه نتيجة سياسات اقتصادية خاطئة سببها تراكمات من الفساد؟ أم هو نتيجة مزدوجة السبب؟
بعد صدور نتائج الانتخابات النيابية، لعلّ رسالة الليرة والتلاعب بالدولار تفضح ما حاول الحزب الاختباء وراءه قبيل الانتخابات، حين أمعن برمي سهام المسؤولية على “الطبقة الفاسدة” مستثنياً نفسه منها
سار الفساد يداً بيد مع نشوء الدويلة وتسارع تطوّرها. استخدمه حزب الله (الحاكم) كسلاح لتفتيت الدولة. وهنا أستذكر كلام دبلوماسي أوروبي صديق، سألته ذات مرّة عن السياسة التوسّعية الإيرانية، فأجاب أنّها “قائمة على التسلّل والضرب من الداخل لإضعاف الدول قبل تفتيتها تمهيدا للهيمنة عليها”. شبّه الصديق، المخضرم سياسياً، فساد الساسة في هذه الدول بـ”حصان طروادة لميليشيات إيران”.
بعد صدور نتائج الانتخابات النيابية، التي لم تجرِ رياحُها كما تشتهي سفن حزب الله، لعلّ رسالة الليرة والتلاعب بالدولار تفضح ما حاول الحزب الاختباء وراءه قبيل الانتخابات، حين أمعن برمي سهام المسؤولية على “الطبقة الفاسدة” مستثنياً نفسه منها. أما وقد انتهت الانتخابات، فيبدو أنّه لا يمانع القول جهاراً: “إمّا سلاحي أو لقمة عيشكم”.
وها هي مناطق لبنان، من دون استثناء، تشهد مستوىً من الفقر المدقع بسبب استمرار تدهور سعر صرف الليرة، وحجز الودائع في المصارف، وشلل النظام المصرفي، والاهتراء الإداري، وتسييس القضاء، وتعطيل السلطات الدستورية، وما يرافق كلّ ذلك من انهيارات معيشية لا سابق لها قد تدفع اللبنانيين نحو الانفجار.
هل خطّط حزب الله لـ”الانهيار”؟
ما دامت الكتل والتحالفات النيابية بدأت تظهر، وتختلف عناوينها السياسية وأولويّاتها، فيتمسّك البعض بشعارات “السيادة” كأولويّة مطلقة، بينما يجاهر البعض الآخر برفع شعار “أولويّة المعالجة الاقتصادية” على ما عداها، مقترباً بشعاره هذا ممّا طرحه حسن نصر الله بدعوته إلى “تأجيل بحث موضوع السلاح لسنتين ريثما يتمّ حلّ المسائل الحياتية والاقتصادية”… نطرح السؤال التالي: هل ما آلت إليه الأمور الاقتصادية والماليّة والنقدية كان “محض صدفة”؟ أم أنّ هناك من دفع بقرار سياسي استراتيجي واضح مخطّط له بعناية للوصول إلى هذه الوضعية المزرية؟
تدلّ كلّ خطابات حسن نصر الله ومواقف ومخطّطات حزب الله على أنّ الأخير خطّط منذ نشأته في العام 1982 للوصول إلى انهيار الدولة اللبنانية وسلطتها المركزية لوضع اليد على بلد متعدّد البيئات والمذاهب والطوائف، من دون أن يُتّهم بانقلابه على الأعراف الدستورية السائدة.
بعد الانتخابات لم يعد حزب الله يمانع أن ينفضح أمام اللبنانيين ويقول: أنا المسيطر على المقاليد السياسية والاقتصادية
فمفهوم السيادة لا يقبل الاستنسابية والانتقائية. كما أنّ الأحوال الاقتصادية تتأثّر بكلّ العوامل، وعلى رأسها مدى قدرة ماليّة الدولة على تلبية الحاجات والمتطلّبات الوطنية والشعبية والاجتماعية. فالسيادة ليست محصورة بالأمور الدفاعية فقط، بل هي السيادة الكاملة وغير الانتقائية وغير الاستنسابية التي تنطوي على تملّك السلطة المركزية لكلّ ما يخصّ الاقتصاد وأصول الدولة المتضمّنة للثروات الوطنية بما فيها ما هو موجود تحت قعر البحر.
من “يفرّغ” السيادة؟
للإجابة على السؤال عمّا إذا كان سلاح الاقتصاد هو الأكثر فعّالية لتفتيت الدولة ومن المسؤول عن ضغط زناده، لا بدّ من البحث عمّن يُفرغ السيادة الوطنية من مضمونها ويحتكر قرار الحرب، ويمارس التهريب عبر الحدود البرّية والمطار والمرافئ، ويستورد البضائع على أنواعها من دون أن يدفع الرسوم الجمركية، ويجلب بواخر النفط عبر سوريا ويبيع محتوياتها ويحوّلها إلى العملة الصعبة والنقد النادر.
من يصنع الكبتاغون والمخدّرات ويسيء إلى الدول المانحة ويمنعها من مساعدة لبنان؟، ومن يعطّل السياحة في البلد بتهديده الوافدين أو بجعل لبنان غير آمن للسيّاح العرب والأجانب؟ ومن يصدِّر نيترات الأمونيوم إلى قبرص وبلغاريا وألمانيا ودول أميركا الجنوبية، ويشترط ترسيم الحدود البحرية بحفظ مصالح طهران وزبائنية التيار العوني – الباسيليّ؟
هو ذاته الذي يعبث بالسيادة الاقتصادية كما الوطنية، وهو من يملك الاقتصاد الموازي فيدير محطات المحروقات ومراكز التسليفات والقرض الحسن، وهو من فجّر مصرف “لبنان والمهجر” وشجّع جبران باسيل على تهديد رئيس مجلس إدارة بنك بيبلوس فرنسوا باسيل بمحاكمته إن أوقفت جمعية المصارف تمويل عجز الدولة في العام 2014.
إقرأ أيضاً: سنة ثالثة انهيار: لا مؤتمر دولي… ولا إنقاذ
بعد الانتخابات لم يعد حزب الله يمانع أن ينفضح أمام اللبنانيين ويقول: أنا المسيطر على المقاليد السياسية والاقتصادية، “إمّا سلاحي وقدراتي وإمّا لقمة عيشكم، أنا من يدفع بالأوضاع بقرار سياسي استراتيجي لتصل إلى ما وصلت إليه وإلى ما آلت إليه، وافعلوا ما شئتم!”. لا يمانع اليوم أن يكشف دوره على الملأ، ولا يمانع أن يتمّ اتّهامه بذلك عندما لم يمانع أيضاً أن يقول جهاراً في أعقاب الانتخابات: تفضّلوا ما يمكنني فعله بالليرة بين ليلة وأخرى، ردّاً على محاولات “السياديّين” القول: انتصرنا على الحزب في الانتخابات.
التتمّة في الحلقة الثانية غداً…
في الحلقة الثانية:
“الانهيار” قرار سياسيّ: فاحفظوا رؤوسكم
* كاتب لبنانيّ مقيم في دبي