هل تخلّت أنقرة عن “نبع السلام-2″*؟

مدة القراءة 9 د

تُعتبر المنطقة الآمنة التي تريدها أنقرة في شمال سوريا حالة ميدانية فعليّة، بغطاء سياسي أمنيّ، أكثر من كونها مطلباً تقنيّاً قانونياً يمنحها فرصة من هذا النوع.

ثمّ هناك، كما تقول القيادات التركية، تضارب مصالح وتشابك مواقف وحسابات محليّة وإقليمية تعطي تركيا مثل هذا الحقّ، باعتبارها الأقرب إلى مكان الحدث والأكثر عرضة للخطر بسبب ارتدادات ما يجري على أمنها وحدودها. هذا إلى جانب تفاعل ملف اللجوء السوري في الداخل التركي وما يحمله من أعباء سياسية واقتصادية واجتماعية لحزب العدالة والتنمية الحاكم وهو يستعدّ لمعركة انتخابية بالغة الصعوبة.

أعلن الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، قبل أيام، عن استعدادات عسكرية لاستكمال الجزء الثاني من عملية “نبع السلام”، التي انطلقت في مطلع تشرين الأول عام 2019 وأوقفتها أنقرة بعد أيام، إثر تعهّدات أميركية روسية بمساعدتها على إنشاء منطقة أمنيّة على طول حدودها الجنوبية بعمق 30 كيلومتراً، سيكون دورها ضمان عودة مئات الآلاف من السوريين إلى بلادهم والمساهمة في إسقاط مشروع الكيان الكردي المستقلّ في شمال شرق سوريا.

ليس ما يُقلق أنقرة التفاهمات الروسية الإيرانية في مواجهة عمليّتها العسكرية، بل الخدمات المتبادلة التي قد تتمّ بين طهران وواشنطن في سوريا

مع ذلك هناك الكثير من الأسئلة التي تُطرح عن الأهداف الحقيقية اللامعلنة للعملية العسكرية التركية الخامسة المرتقبة في شمال سوريا، ومشروعيّتها، والجهة التي ستشرف على إدارة شؤون المنطقة الآمنة المزمع استكمالها، والتي ستتولّى التمويل والتجهيز إلى جانب الإعداد للسيناريو المحتمل للتعامل مع الملف السوري بعد ذلك؟

في إطار التحرّك التركي للوصول إلى هذا الهدف، أجرى الرئيس إردوغان اتصالاً هاتفياً بنظيره الروسي فلاديمير بوتين، واتّصل أيضاً رئيس لجنة الأمن والسياسات الخارجية في الرئاسة التركية إبراهيم كالين بمستشار الأمن القومي الأميركي جايك سوليفان قبل أيام. كان للعملية العسكرية التركية في شمال سوريا حصّتها الكبرى في النقاشات، خصوصاً لناحية معرفة من الذي سيقف إلى جانب تركيا للوصول إلى ما تريد؟ ومَن الذي قد يعرقل عمليّتها للحؤول دون تحقيق غايتها؟

هل تنتظر أنقرة وصول وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف الأسبوع المقبل لحسم موقفها وإعلان ساعة الصفر لبدء العملية العسكرية التي تنوي القيام بها؟ أم تكتفي بما قاله لافروف قبل أيام من أنّ تركيا لن تبقى صامتة حيال تطوّرات المشهد في الشمال السوري، وهذا من حقّها، وأنّ الوجود الأميركي هناك غير شرعي وهدفه تفتيت سوريا، فتعتبر ذلك بمنزلة الضوء الروسي الأخضر؟

هل يكون بمقدور أنقرة تجاهل ما تقوله واشنطن التي تواصل دعم مجموعات “قسد” في حفر أنفاق على مقربة من حدودها الجنوبية بالتكنولوجيا الأوروبية وبالاتجاه المعاكس بعيداً عن الجبهات المفترضة مع تنظيم داعش في شرق سوريا؟

مشكلة أنقرة وواشنطن تحديداً ستكون أكبر عندما تستخدم “وحدات الحماية الكردية” السلاح الغربي في مواجهة القوات التركية حليف أميركا داخل الناتو: فهل يسمح البنتاغون بذلك؟

معروف مَن هو المستهدَف في العملية العسكرية التركية. إنّها مجموعات “قسد” الضروري إخراجها من المناطق المتبقّية لإكمال خطة “المنطقة الآمنة” وعرقلة مشروع الدويلة الكردية في شمال شرق سوريا. لكنّ التطوّرات الميدانية قد تحمل معها الكثير من المفاجآت، فهل أنقرة جاهزة للتعامل مع سيناريوهات محلّية وإقليمية من هذا النوع؟ خصوصاً أنّ وزير خارجية النظام في دمشق فيصل المقداد يلوّح بجهوزيّة الورقة الإيرانية، ويقول بعد اجتماعه بمعاون الرئيس الإيراني علي سلاجقة، وهو يعقّب على العملية العسكرية التركية المنتظرة، إنّ “ممارسات النظام التركي الاستعمارية في المنطقة تلحق أضراراً بيئيّة واقتصادية كبيرة في كلّ من سوريا والعراق وإيران ودول أخرى”؟

يريد البعض معرفة موعد العملية العسكرية التركية، واحتمالات تأجيلها أو التخلّي عنها. لكنّ السؤال الصحيح هو: لماذا تصرّ أنقرة على هذه العملية؟ وما الذي سيجري خلالها وبعدها في سوريا؟ وهل يكون النقاش بعد ذلك ذا طابع إقليمي أوسع وأكبر؟

 

تواكب جملة من الحقائق سيناريوهات العملية العسكرية التركية وما بعدها:

1 – المنطقة الآمنة التي تريدها تركيا في شمال سوريا ستكون المسمار الأخير في نعش تفاهمات آستانة، وستُنهي هذه الآليّة، لتفتح الطريق أمام تفاهمات جديدة بديلة أو تباعد وطلاق ينسف الطاولة الثلاثية في سوريا، والشقّ الثاني هو الأقرب.

2 – ليس ما يُقلق أنقرة التفاهمات الروسية الإيرانية في مواجهة عمليّتها العسكرية، بل الخدمات المتبادلة التي قد تتمّ بين طهران وواشنطن في سوريا، وتكون خطة المنطقة الآمنة إحدى ضحاياها، في إطار صفقة الملفّ النووي والدور الأميركي في شمال سوريا ومخطّط فتح الطريق أمام فدرلة سوريا في إطار صفقة المشروع الكردي الإقليمي.

3 – أعلن المتحدّث باسم وزارة الخارجية الإيرانية سعيد خطيب زاده أنّ بلاده تعارض العملية العسكرية التركية المرتقبة في شمال شرق سوريا، داعياً أنقرة إلى احترام التفاهمات التي تمّ التوصّل إليها خلال مفاوضات مسار آستانة، معتبراً أنّ العملية تُعدّ “انتهاكاً لوحدة أراضي سوريا وسيادتها الوطنية”.

طهران هي الدولة التي جاهرت بما عندها حيال الاستعدادات التركية. إذاً لن يكون هناك صعوبة في الربط بين العملية العسكرية التركية الموعودة في شمال سوريا وبين التموضع الإيراني في المناطق التي تُخليها القوات الروسية. القناعة التركية هي أنّ إيران ستحاول افتعال العراقيل وبناء الحواجز أمام تركيا في الملفّ السوري مستقويةً بورقة النظام في دمشق والتوتّر التركي الأميركي واحتمال وضع مجموعات “قسد” تحت رعايتها كفرصة تعزّز من نفوذها ودورها هناك.

4 – التحرّك العسكري التركي المرتقب على ضفّتَيْ الفرات السوريّتين لا يمكن فصله أيضاً عن التموضع الإقليمي التركي الأخير وتحسين العلاقات مع دول المنطقة والتقارب التركي الإسرائيلي والتقاء مصالحهما في سوريا في مواجهة التمدّد الإيراني الذي يريد الربط بين خطوط التواصل العراقية والسورية واللبنانية. لكنّ الغامض حتى الآن هو معرفة قدرة هذا التنسيق التركي الإسرائيلي على التأثير في المشهد السوري ككلّ وكسب الدعم الأميركي والروسي والعربي إلى جانبه لمواجهة التمدّد الإيراني.

يطلق إردوغان النار على كلّ مَن يقف بوجه الخطة التركية محاولاً لعب أوراق “قسد” و”مسد” ووحدات الحماية وتنظيم داعش وكوادر الكيان الموازي التابع لجماعة فتح الله غولن ضدّ أنقرة

5 – أحصت وسائل الإعلام التركية خلال عام واحد 5 عمليات اختراق استخباراتي إيراني داخل الأراضي التركية عبر تجنيد عملاء أو محاولة اختطاف معارضين للنظام أو مهاجمة مواطنين إسرائيليين. إذاً ستكون الإجابة على سؤال: “لماذا تنسّق أنقرة وتل أبيب في سوريا؟” في غاية البساطة: “لأنّ طهران تستهدف مصالحهما معاً، ولأنّ الأراضي السورية ستكون بعد الآن إحدى أهمّ ساحات تضارب النفوذ وخطوط المواجهة المتمّمة للساحتين العراقية واللبنانية”.

6 – الخيار الأقرب إلى روسيا سيكون محاولة المساومة مع “قسد” لإقناعها مرّة أخرى بقرع أبواب النظام بدلاً من الاستقواء بالموقف الأميركي، وبالتالي اصطياد أكثر من عصفور بحجر واحد: تجيير ورقة العملية العسكرية التركية لمصلحتها، وتقوية موقف النظام في دمشق، وإنهاء التنسيق الكردي مع واشنطن في سوريا. لكنّ الواقعية تقول إنّ واشنطن لن تسمح لحليفها الكردي بذلك، وهي ستضحّي به من أجل إعطاء أنقرة ما تريد إذا ما شعرت أنّه سينفتح على السيناريو الروسي.

7 – الخيار الأكثر واقعية لأميركا هو إعطاء تركيا ما تريد في شمال سوريا في إطار صفقة إقليمية متعدّدة الجوانب يتقدّمها ملف أوكرانيا وتوسعة الأطلسي وتوفير الضمانات لدعم خطة المنطقة الآمنة. وبذلك تكون قد أضعفت التنسيق التركي الروسي واستردّت حليفها التركي إلى الحضن الغربي. إذاً سيكون التنافس بين واشنطن وموسكو على إرضاء أنقرة بعدما تراجع احتمال حدوث تفاهمات أميركية روسية في سوريا على حساب تركيا ومصالحها هناك.

مكاسب أنقرة الحتمية

تستفيد أنقرة حتماً من المتغيّرات الإقليمية التي تمنحها فرصة تحريك القوات مجدّداً باتجاه الشمال السوري. إلا أنّ ما تقوم به يتمّ نتيجة تطوّرات سياسية وأزمات داخلية اقتصادية ومعيشية مؤثّرة أيضاً، وهو يلتقي مع ما قالته القيادات التركية على أعلى المستويات، عند نقطتين أساسيّتين: التوتّر التركي الأميركي في سوريا في ذروته بعكس تقدّم الحوار التركي الروسي في أكثر من ملفّ ثنائي وإقليمي. وتركيا تصرّ على عملية عسكرية جديدة في غرب الفرات وشرقه على السواء، في المربّع الذي يجمع تل رفعت وعين عرب ومنبج وعين عيسى. لكنّ المفاجأة المحتملة هي دخول موضوع مصير مدينة القامشلي المحاذية لقضاء نصيبين الحدودي في جنوب شرق تركيا قلب النقاشات، وأن تعلن القوات التركية أنّها لن تتوقّف قبل أن تحسم المشهد السياسي والأمني هناك أيضاً.

تريد أنقرة إنشاء المنطقة الآمنة في الشمال السوري وعلى طول الحدود المشتركة بين البلدين لتسهيل عودة مئات الآلاف من اللاجئين إلى تلك البقعة الجغرافية، لكنّها تريد أيضاً استكمال بناء المنطقة العازلة والحزام الأمني الذي يبعد المشروع الكردي الانفصالي وقوات “سوريا الديمقراطية” عن مناطقها الجنوبية.

إقرأ أيضاً: تركيا ولعبة شدّ الحبل الأطلسيّة

يطلق إردوغان النار على كلّ مَن يقف بوجه الخطة التركية محاولاً لعب أوراق “قسد” و”مسد” ووحدات الحماية وتنظيم داعش وكوادر الكيان الموازي التابع لجماعة فتح الله غولن ضدّ أنقرة. لذلك نراه يردّد أنّ تركيا ستعمل بمفردها على تحقيق أهدافها ما دامت دول التحالف، وعلى رأسها أميركا، منهمكة بمواصلة تقديم مختلف أنواع الدعم العسكري بالأسلحة والآليّات والمستلزمات والذخائر للمجموعات التي تهدّد أمن تركيا واستقرارها.

لا يمكن لتركيا أن تلغي عمليّة بَنَت عليها الكثير من الحسابات السياسية والأمنيّة والاقتصادية على مستوى الداخل والخارج. كلّ ما ستفعله هو إعطاء الأولويّة للخيار السياسي وإرجاء العملية لإكمال المساومات التركيّة على خطّ موسكو – واشنطن.

* نبع السلام: هو الاسم المعتمد للعملية العسكرية التركية المقرّرة لدخول الجيش التركي بعمق 30 كيلومتر داخل الشمال السوري

مواضيع ذات صلة

تشدّد الرّياض: عودة عربيّة إلى نظام إقليميّ جديد؟

توحي نتائج القمّة العربية – الإسلامية بأوجه متعدّدة لوظيفة قراراتها، ولا تقتصر على محاولة فرملة اندفاعة إسرائيل العسكرية في المنطقة. صحيح أنّ القمّة شكّلت حاضنة…

الحرب الأهلية: هواجس إيقاظها بصورٍ كريهة

 اللغو اللبناني حول حظوظ البلد بارتياد آفاق حرب أهلية جديدة، ارتفع. قد يكون هذا الارتفاع على وسائل التواصل الاجتماعي سببه “شامت” بالوضع أو رافض لـ”الرفق”….

الرياض: حدثان اثنان لحلّ لبنانيّ جذريّ

في الأيّام القليلة الماضية، كانت مدينة الرياض مسرحاً لبحث جدّي وعميق وجذري لحلّ أزمات لبنان الأكثر جوهرية، من دون علمه، ولا علم الباحثين. قسمٌ منه…

الحزب بعد الحرب: قليل من “العسكرة” وكثير من السياسة

هل انتهى الحزب؟ وإذا كان هذا صحيحاً، فما هو شكل اليوم التالي؟ وما هي الآثار السياسية المباشرة لهذه المقولة، وكذلك على المدى المنظور؟ وما هو…