أعلن الرئيس التركي رجب طيب إردوغان أنّ “تركيا بصفتها دولة دفعت ثمناً من أجل الناتو، فهي تريد أن ترى خطوات ملموسة تتعلّق بأمنها القومي بدلاً من التصريحات الدبلوماسية الفضفاضة”.
أين دفعت تركيا هذا الثمن الذي يتحدّث عنه إردوغان؟ وما هي الخطوات الملموسة التي تنتظرها من شركائها في الأطلسي؟
ها نحن نعود مرّة أخرى إلى خط البداية في امتحان الشراكة التركية – الأطلسية التي تعرّضت لأكثر من اختبار طوال 7 عقود منصرمة. هي ليست المرّة الأولى التي تتوتّر فيها العلاقات التركية الأطلسية، ويجد كلا الطرفين نفسه أمام امتحان الثقة وتبنّي ما يقوله الآخر. ولن تكون آخر مرّة نسمع فيها أصواتاً تركية وغربية تدعو إلى إنهاء “زواج كاثوليكي” مرّ عليه أكثر من 70 عاماً بين أنقرة وحلف الناتو بسبب ما يشوب العلاقات من تردّد وغموض وتضارب مصالح ونفوذ.
تريد تركيا من استوكهولم وهلسنكي قبل إعطاء موافقتها على انضمامهما إلى حلف شمال الأطلسي وضع التنظيمات الثلاثة التي تصنّفها إرهابية
هناك من يردّد في الداخل التركي اليوم أن الحلف الأطلسي كان يعوّل فقط على “الدور الوظيفيّ” لتركيا بسبب موقعها وثقلها العسكري وخصوصيّتها الدينية والاجتماعية والثقافية بالنسبة إلى دول الحلف، وأنّه خذل أنقرة عام 2007 عندما رفض الوقوف إلى جانبها في عملياتها العسكرية ضدّ مواقع حزب العمال الكردستاني في شمال العراق، وفي عام 2011 في الملف الليبي عندما طالبت تركيا دول الحلف بدعمها هناك، فلم تصل إلى ما تريده بسبب مواقف بعض الدول الأوروبية. ثمّ كانت هناك أزمة نشر صواريخ الباتريوت الأطلسية فوق أراضيها وسحبها عام 2013 من دون موافقة تركيا، الأمر الذي تركها في مواجهة التهديدات الروسية والإيرانية بعيداً عن أيّ غطاء جوّي. بالمقابل هناك من يقول لنا في الغرب إنّ الفجوة تتّسع بين أنقرة وبروكسل الأطلسية، وإنّ تركيا تخلّت عن مواقف التحالف وسياساته وروحه أكثر من مرّة، كان أهمّها عام 2014 عندما رفضت المشاركة في العمليات العسكرية ضدّ مجموعات تنظيم الدولة الإسلامية في سوريا، ثمّ اعتماد أنقرة سياسة مغايرة لسياسات الحلف في التعامل مع الغزو الروسيّ لأوكرانيا.
أردوغان بين السويد وفنلندا
يقول المتحدّث باسم الخارجية الأميركية نيد برايس إنّ موضوع عضويّة السويد وفنلندا في الناتو مسألة تتعلّق بالعلاقات التركية-الأطلسية وليس التركية-الأميركية. تقول استوكهولم وهلسنكي إنّ الخلافات التركية-الأميركية لها تأثيرها على مسار ملفّ عضويتهما في الحلف. الواضح تماماً أنّ لعبة شدّ الحبل بين أنقرة من جهة، والسويد وفنلندا من جهة أخرى، حول طلب انضمامهما إلى حلف شمال الأطلسي، تتحوّل إلى مواجهة تركية غربية وتركية أميركية يوماً بعد آخر.
تريد تركيا من استوكهولم وهلسنكي قبل إعطاء موافقتها على انضمامهما إلى حلف شمال الأطلسي وضع التنظيمات الثلاثة التي تصنّفها إرهابية، “حزب العمال الكردستاني”، ومجموعات “الكيان الموازي” التابعة لفتح الله غولن المتّهم الأوّل بالمحاولة الانقلابية قبل 6 سنوات، وعناصر “قسد” و”مسد” ووحدات الحماية في شرق الفرات، على لوائح الإرهاب التي تعتمدها وتتبنّاها هي. لكنّها تريد أيضاً، وهو المطلب الأهمّ الموجّه مباشرة إلى دول الحلف بكاملها وعلى رأسها أميركا، دعم خطة المنطقة الآمنة التي تعدّ لتنفيذها على طول الحدود التركية السورية بطول 470 كلم وعمق 30 كلم في الأراضي السورية، وبذلك تكون قد فتحت الطريق أمام تسهيل عودة مئات الآلاف من اللاجئين، وأنشأت منطقة عازلة تضعف مشروع الكيان الكردي الانفصالي على حدودها الجنوبية، وحرّكت ملفّ الأزمة السورية نحو الحلحلة مرّة أخرى، إلى جانب تسجيل قيادات حزب العدالة والتنمية الحاكم اختراق سياسي وشعبي داخلي في الطريق إلى الانتخابات المرتقبة بعد عام، خصوصاً أنّ غالبية استطلاعات الرأي تتحدّث عن تراجع شعبيّتها لمصلحة تكتّل المعارضة.
العملية العسكرية الخامسة في شمال سوريا التي يجري الإعداد لها في أنقرة لا يمكن فصلها عن ملف عضوية السويد وفنلندا في الناتو. حدثت متغيّرات محلية وإقليمية كثيرة في التعامل مع المشهد السوري. روسيا تنفّذ إعادة تموضع أوّل المستفيدين منها هي إيران، وهناك قلق تركي إسرائيلي حيال ما يدور، فهل يدفع ذلك أنقرة وتل أبيب وبعض العواصم الإقليمية الفاعلة في سوريا نحو التنسيق في مواجهة النفوذ الإيراني المتزايد هناك؟ ردّة فعل واشنطن وموسكو حيال الاستعدادات العسكرية التركية ستحمل لنا الإجابات حتماً.
يقول الأمين العام لحلف شمال الأطلسي ينس ستولتنبرغ إنّ الحلف لم ولن يناقش يوماً الدور الاستراتيجي التركي داخل المنظومة والخدمات التي قدّمتها أنقرة للحلف طوال فترة انضمامها إليه. لكنّ هناك بعض الأصوات في الغرب التي بدأت تطرح مسائل تباعد المصالح التركية الأطلسية والتقارب التركي الروسي والتركي الإيراني وتعارض القراءات والسياسات الأمنيّة والتحدّيات التي تواجه الجانبين، وتروِّج لفكرة “طرد تركيا من الناتو” على الرغم من أنّها تدرك أنّ ما يُقال لا يستند إلى مواقف سياسية معلنة من قبل القيادات السياسية في المنظومة. وعلى الرغم من أنّه من الناحية القانونية والتقنية لا توجد مادّة في ميثاق الحلف تخوّل الدول الأعضاء طرد أيّ شريك لهم، بل منح العضو الذي يريد المغادرة هذا الحقّ. إذا كانت دول الأطلسي الثلاثون لا تريد أن تلعب مع تركيا بعد الآن فخيارها الوحيد هو الانسحاب من المنظمة والتداعي إلى اللعب فيما بينها في مكان آخر بدون أنقرة، عبر تكوين تكتّل أمنيّ وعسكري جديد، وهو خيار خارج المنطق والعقل. هناك أكثر من توتّر وتباعد تركي أطلسي حدث بين الجانبين في التعامل مع ملفّات إقليمية، لكنّ الأمور لم تصل يوماً إلى درجة التباعد أو القطيعة أو الانفصال.
ما الذي يعنيه قطع العلاقات الأطلسية التركية؟
بعض النقاط وبإيجاز فقط:
– خسارة الموقع الجيواستراتيجي التركي المطلّ على المضائق بين البحر الأسود وبحر إيجه، وبوابة الشرق الأوسط الجغرافية، وخطّ التقاطع بين آسيا وأوروبا.
– ولادة سياسات استقطاب متباعدة في أكثر من ملفّ إقليمي ودولي.
– تراجع عنصر التوازن التركي الإيراني الإقليمي، حيث بدأت طموحات إيران تتّسع في المنطقة.
– مواجهة تركية أطلسية في إيجه وشرق المتوسط والبحر الأسود والبلقان والقوقاز وآسيا الوسطى يضرّ بمصالح الطرفين.
– اقتراب استراتيجي تركي أكثر فأكثر من روسيا وإيران والصين.
– ذهاب دول الحلف في طريق مغاير لما ردّدته حتى اليوم عن أسباب قبول تركيا شريكاً تحت هذه المظلّة الأمنيّة، وأبرزها تجاوز مسائل الدين والثقافة والعرق والجغرافيا التي كانت تقوّي مواقف الناتو حيال دول المنطقة نتيجة نظرته الانفتاحية نحو تركيا.
– التخلّي عن الدور المحوري لصاحبة ثاني أكبر جيش في الحلف منذ العام 1952 حتى اليوم، وإضعاف جناح الأطلسي الجنوبي حيث لن يكون بمقدور اليونان ملء هذا الفراغ.
يقول الرئيس التركي رجب طيب إردوغان إنّ موضوع توسعة الأطلسي مهمّ بالقدر نفسه الذي تؤخذ فيه حساسياتنا بعين الاعتبار. لا يعني التحفّظ التركي على عضوية السويد وفنلندا في الأطلسي بالضرورة أنّ أنقرة ستلجأ إلى استخدام حقّ النقض الذي يمنحها إيّاه ميثاق الحلف. هي تريد تسجيل بعض المكاسب والمواقف السياسية والأمنيّة الداعمة لها في ملفّات حسّاسة تقلقها، وعلى رأسها موضوع المنطقة الآمنة في شرق الفرات وسياسة أميركا السورية واليونانية وتردّد واشنطن في إنهاء قرارات العقوبات ضدّها وتسهيل صفقة مقاتلات إف 16 بعدما أسقطت مشروع المقاتلة إف 35 وإغلاق ملفّ ابتياعها لمنظومة صواريخ إس 400 الروسية. ما ينهي الأزمة بين أنقرة من جهة، والسويد وفنلندا من جهة أخرى، ليس دخول الأمين العام للحلف على الخط، بل الحوار التركي الأميركي المباشر حول كلّ هذه النقاط الخلافية العالقة بينهما. لكنّ ما تفعله واشنطن في بحر إيجه وشرق المتوسط مقلق لأنقرة.
فهل التحرّك الأميركي العسكري لزيادة عدد القواعد العسكرية هناك رسالة أميركية-أطلسية لتركيا بأنّ سيناريوهات المرحلة المقبلة قد تكون مختلفة ومغايرة للجميع؟
أردوغان خائف من “الأطلسي”
السيناريو الذي لا يريد أن يتخيّله أحد في تركيا هو خروج بلادهم من الحلف واقتراب الخطر العسكري للأطلسي من الأراضي التركية ليس من خلال اليونان، بل من خلال قبول قبرص اليونانية عضواً في التكتّل واقتراب الخطر العسكري للناتو من السواحل التركية وتكرار خطأ إشعال الضوء الأخضر عام 2004 أمام عضوية قبرص في الاتحاد الأوروبي بعد السقوط في مصيدة خطة كوفي أنان.
أكّد الرئيس التركي إردوغان أنّ قوات بلاده ستشرع قريباً في استكمال إنشاء المناطق الآمنة باتجاه الجزء المتبقّي في شمال شرق سوريا بعمق 30 كيلومتراً، وأنّ العمليات ستبدأ عند انتهاء استعدادات الجيش والاستخبارات والأمن، موضحاً أنّ القرار النهائي سيتمّ اتّخاذه خلال اجتماع مجلس الأمن القومي هذا الأسبوع. المستهدف هنا هو قوات سوريا الديمقراطية الموجودة في المنطقة. فهل تسمح لها واشنطن باستخدام السلاح الذي زوّدتها به لمحاربة مجموعات داعش ضدّ الجيش التركي؟ وكيف سيكون الموقف التركي عندها وكيف ستكون ارتدادات ما يجري على العلاقات التركية الأميركية؟
إنّه سبب آخر لانفجار العلاقات بين أنقرة وواشنطن داخل الحلف الأطلسي إذا لم يدعم البيت الأبيض العملية.
أعلنت القيادات السياسية التركية أكثر من مرّة أنّ مشكلتها ليست مع التوسعة الأطلسية التاسعة وقبول السويد وفنلندا في الحلف، بل مع ضرورة تغيير البلدين لسياساتهما في التعامل مع مسائل تعتبرها تركيا أمناً قوميّاً كالدعم الذي توفّره استوكهولم وهلسنكي لمجموعات حزب العمال و”قسد” والكيان الموازي، وهي كلّها مجموعات إرهابية حسب أنقرة. هل هي فرصة تركية للقطع مع الغرب بعد التوتّر الحاصل في العلاقات بين الطرفين منذ سنوات ومع أكثر من مؤسسة ومنظمة وهيئة سياسية وحقوقية واجتماعية أوروبية في بروكسل واستراسبورغ؟
فرضت السويد العقوبات على أنقرة في عامَيْ 2016 و2019 بسبب ملفّات سياسية وأمنيّة داخلية وخارجية كان لحزب العمال و”قسد” والكيان الموازي الحصّة الكبرى فيها. المسافة بين القامشلي واستوكهولم هي 4,750 كلم، بينما هي بين مركز قضاء نصيبين التركي وقلب القامشلي لا تتجاوز 10 كيلومترات، فكيف ستواصل السويد دفاعها عن مصالحها مع هذه المجموعات؟
إقرأ أيضاً: تركيا: اتفاقية “لوزان”… خطأ شائع أم توليف مقصود؟
معروفة لدى الجميع أسباب الرغبة الأطلسية في عدم التفريط بالعلاقة الاستراتيجية مع تركيا، مثل النفوذ والوجود التركيّين في الشرق الأوسط وشرق المتوسّط والمضائق والبحر الأسود، وكلّها مناطق متداخلة مع روسيا تلعب تركيا دور رأس الحربة فيها. يعوّل البعض في الغرب ربّما على التغيير الحزبي والسياسي في تركيا، وينتظر نتائج انتخابات حزيران 2023. عندما يجد الناتو البدائل التي تمكّنه من سدّ هذا الفراغ الأمني والعسكري سيفكّر ربّما في مراجعة علاقاته بتركيا، لكن حتى ذلك الوقت لا مؤشّرات حقيقية إلى الرغبة بالتغيير. هدف أميركا هو إزالة العقبة التركية قبل حزيران المقبل موعد القمّة الأطلسية المرتقبة في مدريد التي ستحضرها 32 دولة شريكة لحظة إعلان بيان استراتيجية الحلف للعام 2030. فهل تعطيها أنقرة ما تريد؟ وما هو الثمن؟