أعادت الحرب في أوكرانيا طرح القضية اليهودية في أوروبا مرّة جديدة، وذلك عبر العديد من الأبواب، وأهمّها:
أوّلاً: إعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أنّ روسيا تخوض في أوكرانيا حرباً ضدّ “النازيّين الجدد”.
ثانياً: عرض إسرائيل التوسّط بين موسكو وكييف.
ثالثاً: التبنّي الأميركي – الأوروبي للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، وهو نفسه شخصيّة يهودية.
رابعاً: إعلان وزير خارجية روسيا لافروف أنّ هتلر نفسه يتحدّر من أصول يهودية (أمّه يهوديّة).
خامساً: نقل المهجّرين الأوكرانيّين اليهود إلى إسرائيل كمواطنين إسرائيليين (القانون الإسرائيلي يعطي كلّ يهوديّ حقّ الحصول على الجنسيّة الإسرائيلية ما إن يصل إلى إسرائيل). وبالفعل بدأ بناء مستوطنة جديدة لهم في الضفة الغربية. استناداً إلى الرواية اليهودية حول تصفية اليهود في أوروبا، فإنّ الضحايا من اليهود الذين جرت تصفيتهم على يد النازية الألمانية كانوا في معظمهم من يهود بولندة، وجارتها أوكرانيا، وذلك نظراً إلى تجمّعهم هناك.
تتصدّر بولندة لائحة الدول التي دافع أهلها عن اليهود في وجه النازية، تليها هولندة وفرنسا، ثمّ أوكرانيا
لم يكن البولنديون الكاثوليك، ولا الأوكرانيون الأرثوذكس مستعدّين لمواجهة النازية الألمانية بكلّ ما عُرف عنها من وحشيّة ومن قدرة على العقاب الجماعي للدفاع عن اليهود. إلا أنّ بعضهم غامر بحياته وبمصالحه للدفاع عنهم، إمّا باحتضانهم أو بتضليل العناصر النازية التي كانت تطاردهم بسبب هويّتهم الدينية. ولذلك عمدت إسرائيل بعد قيامها على أشلاء فلسطين إلى تكريم هؤلاء بإقامة مقبرة رمزية لهم في عام 1962 في “يادفاشيم” في القدس لتخليد ذكرى ضحايا الإبادة الجماعية التي تعرّض لها اليهود في أوروبا (وليس في الشرق الأوسط أو في العالم العربي). ويُطلق على هذا القسم من المقبرة اسم “مقبرة الصالحين من العامّة” (أي من غير اليهود).
المقبرة و”اللاسامية”
يوجد في هذه المقبرة المنفصلة عن المقبرة اليهودية رفات لأشخاص بولونيين وكرواتيين، وهم قلّة. فإسرائيل تتّهم الأكثرية من البولونيين باللاسامية وبتشجيع النازيين على ارتكاب جرائمهم. وهو ما تنفيه بولونيا. وقد ذهبت في النفي إلى حدّ إصدار قانون في عام 2018 يعتبر كلّ مَن يتّهم أيّ بولندي بمساعدة النازية عدواً للشعب وللدولة. ويرفض القانون أيضاً الاتّهام المسبق ويدين صاحبه ويعاقبه. وهو القانون الذي فجّر مشاعر العداء بين بولندة وإسرائيل.
وفي ظلّ هذا القانون لم تترك سفارة إسرائيل في وارسو اللاجئين اليهود من أوكرانيا يبيتون إلّا أيّاماً قليلة حتّى تتدبّر نقلهم جوّاً إلى إسرائيل حيث يُمنحون جنسيّتها ومنازل مؤقّتة في بعض المستوطنات تمهيداً لإقامة مستوطنة جديدة لهم في الضفة الغربية المحتلّة.
مع ذلك تتصدّر بولندة لائحة الدول التي دافع أهلها عن اليهود في وجه النازية، تليها هولندة وفرنسا، ثمّ أوكرانيا. أمّا روسيا فتأتي في آخر اللائحة. تتقدّم عليها كلّ من ألمانيا (مهد النازية) وبيلاروسيا.
يدّعي الإسرائيليون أنّ تصدّر بولندة للّائحة لا يعني بالضرورة أنّها كانت أكثر الدول الأوروبية إشفاقاً على اليهود ومساعدةً لهم على الهروب من بين براثن النازيّة. فالأكثرية اليهودية كانت تعيش في بولندة، ولذلك كان طبيعياً أن تكون نسبة المدافعين عنها عالية نسبيّاً. اعتبرت بولندة هذا التبرير إساءة إليها، فاضطربت العلاقات بين وارسو وتل أبيب إلى أن تدخّلت الولايات المتحدة للإصلاح بينهما.
منذ الحرب العالمية الثانية وظّفت الحركة الصهيونية العالمية جرائم النازية ضدّ اليهود وسواهم لتغطية جرائم تشريد الفلسطينيين وإقامة إسرائيل
الوساطة بين كييف وموسكو
في أساس العقيدة الصهيونيّة، كما صاغها روفت ريفيلين رئيس مزار يادفاشيم لتخليد ذكرى ضحايا الإبادة الجماعية لليهود في أوروبا، أنّ كلّ تهديد لإسرائيل هو تهديد مصيريّ، وأنّ كلّ كاره لإسرائيل هو هتلر.
وعندما دعا الرئيس الأوكراني زيلينسكي إسرائيل إلى مساعدة بلاده كما سبق للأوكرانيين أن ساعدوا اليهود ضدّ النازية، أثارت دعوته إلى المعاملة بالمثل ردود فعل سلبيّة في إسرائيل، على الرغم من يهوديّته. وقد ترافقت دعوته مع المبادرة السياسية التي قامت بها إسرائيل للوساطة بين كييف وموسكو. غير أنّ الوسيط يُفترض أن يكون على مسافة واحدة من طرفَيْ النزاع. أمّا الرئيس الأوكراني فيعتبر أنّ إسرائيل بيهوديّتها يجب أن تكون طرفاً إلى جانب الدولة التي يرأسها يهودي، أي هو نفسه، والتي دافعت عن اليهود في العهد النازي، وكأنّ لسان حاله يقول: كما دافع الأوكرانيون عن اليهود ضدّ النازية، على إسرائيل الآن أن تدافع عن أوكرانيا ضدّ روسيا، لا أن تكون وسيطاً بينهما.
من هنا جاء تذكير وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بالأصول اليهودية لرمز النازية أدولف هتلر. والتذكير هنا لم يكن زلّة لسان، لكنّه كان موقفاً سياسياً في إطار تبادل القذائف الاتّهامية بالنازية وتوظيفاتها السياسية المعاصرة.
منذ الحرب العالمية الثانية وظّفت الحركة الصهيونية العالمية جرائم النازية ضدّ اليهود وسواهم لتغطية جرائم تشريد الفلسطينيين وإقامة إسرائيل. ثمّ وظّفت جرائم النازية لابتزاز ألمانيا من أجل تمويل إقامة البنية التحتية لإسرائيل. ولمّا كان العديد من الدول الأوروبية الأخرى ساهم بشكل أو بآخر في اضطهاد اليهود (الفاشية الإيطالية، وحكومة فيشي الفرنسية) فقد جرى ابتزاز هذه الدول أيضاً. وكانت تلك سياسة ناجحة. ولذلك تحرص إسرائيل اليوم على عدم تعريض هذه السياسة للتشويه من خلال تبادل الاتّهامات بالنازية بين موسكو وكييف في الحرب الأوكرانية.
إقرأ أيضاً: ألمانيا ترسم “النظام العالمي الجديد”
فروسيا كانت مصدراً لمئات الآلاف من المهاجرين اليهود إلى إسرائيل، وزعيمهم اليوم هو رئيس الحزب الديني الأشدّ تطرّفاً.
لم تعُد النازيّة اتّهاماً بالعنصرية. أصبحت شتيمة سياسية يوجّهها بوتين إلى القوات الأوكرانية، ويوجّهها زيلينسكي إلى القوات الروسيّة، وتوجِّهها إسرائيل إلى الجميع.