وصف الدكتور هنري كيسنجر وزير الخارجية الأميركي الأسبق ألمانيا بأنّها “أكبر من أن تتحمّلها أوروبا، وأصغر من أن تتحمّل العالم”.
منذ المستشار الألماني الأوّل بعد الحرب العالمية الثانية كونراد أديناور، وجدت ألمانيا نفسها مضطرّة إلى اعتماد سياسة خارجية تقوم على قاعدتين ثابتتين:
– الأولى هي القاعدة الأميركية، من خلال حلف الناتو (حلف شمال الأطلسي).
– والثانية هي القاعدة الفرنسية، من خلال الاتحاد الأوروبي.
اهتزّت القاعدة الأولى عندما هدّد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب بالانسحاب من الحلف. وقبل ذلك عندما طعن بصدقيّة الحلف وفعّاليّته. فللولايات المتحدة قواعد عسكرية في ألمانيا، ونووية، مستمرّة منذ الحرب العالمية الثانية. وتشكّل هذه القواعد خطّ الدفاع الأوّل عن ألمانيا، وعن أوروبا، في إطار استراتيجية حلف الناتو في مواجهة الكرملين.
ليس ما بعد ميركل كما قبلها. ليس لأنّ الشخص تغيّر، بل لأنّ القواعد التي تقوم عليها السياسة الألمانية الخارجية تغيّرت أيضاً بحكم الوقائع المستجدّة
لكن لا كرملين بوتين اليوم هو كرملين خروتشوف وبعده غورباتشوف، ولا ناتو بايدن هو ناتو ريغان وقبله آيزنهاور. فقد أعادت الحرب في أوكرانيا وعليها خلط الأوراق من جديد.
ثم اهتزّت القاعدة الثانية عندما فتحت ألمانيا، بقرار من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل، أبوابها أمام قوافل اللاجئين والمهاجرين من الشرق الأوسط، ومن سوريا تحديداً، فأُحرِجت فرنسا التي اتّخذت موقفاً معاكساً. واشتدّ الاهتزاز عندما قامت في ألمانيا حركات شعبوية تجدّد الشعارات النازية بحجّة مناهضة الهجرة، باعتبارها تشكّل خطراً على الهويّة الألمانية. فقد شعرت فرنسا بالقلق جرّاء ارتفاع صوت النازية من جديد. وهو الصوت الذي كان قد شكّل النداء العنصري للحرب العالمية الثانية. إلا أنّ هذا الصوت اختفى كلّيّاً مع الهجرة الأوكرانية الكثيفة.
مع اهتزاز القاعدتين كانت ميركل آخر مسؤول ألماني مارس الحكم على قاعدتَيْ أميركا – الحلف الأطلسي، وفرنسا – الاتحاد الأوروبي.
ما بعد ميركل
من هنا ليس ما بعد ميركل كما قبلها. ليس لأنّ الشخص تغيّر، بل لأنّ القواعد التي تقوم عليها السياسة الألمانية الخارجية تغيّرت أيضاً بحكم الوقائع المستجدّة. إلا أنّ الانفجار في أوكرانيا نقل الاهتمامات باتّجاه آخر. يعزّز هذا الاتجاه الآخر أنّ الرئيس الأميركي جو بايدن هو من دعاة المحافظة على حلف شمال الأطلسي وعلى العلاقات الأميركية مع دول الحلف. وقد نجح في ترجمة ذلك عمليّاً بوقوفه عسكرياً وماليّاً وإعلامياً وسياسياً إلى جانب أوكرانيا ضدّ روسيا حتى تمكّن من عزلها اقتصادياً وماليّاً، ومن إخراجها من منظمة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة.
ما كبح من جماح التغيير هو تجاوز الدول الأوروبية محنة “عدم التعاون” في مواجهة جائحة كوفيد-19. فالاتحاد الأوروبي، بما هو اتّحاد، غاب عن واجهة العمل الاتحادي المشترك، حتى اضطرّت كلّ دولة إلى التعامل مع الجائحة بصورة منفردة.
جاءت مساعدات من الصين البعيدة جغرافياً وسياسياً، وحتى من كوبا الصغيرة والفقيرة، وتصرّفت كلّ دولة عضو في الاتحاد على قاعدة “يا ربّ نفسي”، حتى بدا الاتحاد وكأنّه اسم لغير مسمّى. وممّا زاد الطين بلّة، تراجع الاقتصاد الأوروبي نتيجة الإغلاق الذي تكرّر مرّات عديدة في محاولات لاحتواء الجائحة لكن من دون جدوى.
ثمّ كان خروج بريطانيا من الاتحاد مراهنةً على تعاون أنكلوسكسوني أميركي – بريطاني. إلا أنّ هذا الرهان أيضاً ترنّح مع سقوط القاعدة الثانية للجسر الذي يقوم عليه هذا التعاون، وهي الرئيس دونالد ترامب.. وكان سقوطاً مدوّياً.
يشكّل إعلان بايدن العودة إلى معاهدة باريس الدولية، المتّصلة بمكافحة الاحتباس الحراري، مؤشّراً لعودة أميركية إلى الانفتاح من جديد على الاتحاد الأوروبي
يشكّل إعلان الرئيس الأميركي بايدن العودة إلى معاهدة باريس الدولية، المتّصلة بمكافحة الاحتباس الحراري، مؤشّراً لعودة أميركية إلى الانفتاح من جديد على الاتحاد الأوروبي. ويؤشّر اعتماد سياسة التصدّي لروسيا في أوكرانيا، على حلف شمال الأطلسي، إلى التزامه بالحلف. وهو أمر من شأنه أن يوفّر اطمئناناً أوروبياً بما يكفي لمساعدة دول الاتحاد على إعادة تنظيم صفوفها من جديد، أوّلاً على قاعدة المحور الألماني – الفرنسي، وثانياً على قاعدة العداء لروسيا بوتين.
تتمثّل أهميّة هذا المحور في أمرين جوهريّين:
– الإبقاء على سقف التسلّح العسكري الألماني منخفضاً حتى بعد انفجار الحرب في أوكرانيا، وهو ما يطمئن أوروبا.
– الإبقاء على الالتزام الألماني بالـ”لانوويّ”، أي بعدم إنتاج أيّ شكل من أشكال السلاح النووي. وهو ما يطمئن، إضافة إلى أوروبا، روسيا والولايات المتحدة معاً. والعلماء الذين صنعوا السلاح النووي في كلّ من روسيا والولايات المتحدة كانوا من الألمان الذين اشتغلوا مع هتلر لإنتاج القنبلة النووية في مفاعل أُقيم أثناء الحرب في النرويج.
تأثيرات سياسة بايدن
لقد انشغل العالم الغربي (الأميركي والأوروبي) طويلاً بأمرين أساسيّين:
– المادّة الخامسة من معاهدة الناتو التي تقول إنّ أيّ عدوان على أيّ دولة في الحلف هو عدوان على دول الحلف مجتمعة. كان الرئيس ترامب بعد انفتاحه على الرئيس بوتين يعارض الالتزام بهذه المادّة. الرئيس بايدن يُسقط هذه المعارضة ويعتبرها أساساً لسياسته مع أوروبا ومع روسيا.
– “القيم الغربية الأوروبية” التي اتّهمت أوروبا الرئيس ترامب بانتهاكها. فالرئيس بايدن يشارك الرؤساء الأوروبيين ليس فقط في التمسّك بهذه القيم، بل في إدانة الرئيس السابق بسبب مواقفه السلبية منها. وهي القيم التي تشكّل اليوم القاعدة الأميركية – الأوروبية المشتركة لمواجهة الاتحاد الروسي.
تعني هذه المتغيّرات العودة من جديد إلى النظام العالمي الذي حاول الرئيس ترامب الخروج منه أو تغييره، لكن من دون جدوى. وهو النظام الذي يواجه الآن قوّة تغيير من نوع آخر، وفي اتجاه آخر، مصدره هذه المرّة الصين، وانطلاقاً من تطلّع بيجين إلى استكمال وحدتها القومية باسترجاع تايوان إلى الوطن الأمّ.
إقرأ أيضاً: عالم ما بعد ميركل
التجربة الروسية لاسترجاع أوكرانيا بالقوّة العسكرية لا تبدو مشجّعة للصين. فالتعاون الأميركي – الأوروبي في أوكرانيا يعني تعاوناً أميركياً – يابانياً – كورياً – أسترالياً في تايوان. الأمر الذي قد يفتح الطريق أمام تعاون روسي – صيني من شأنه أن يغيّر قواعد لعبة الأمم. وهو ما تخشاه الولايات المتحدة وتحرص على تجنّب حدوثه.
لكنّ التجارب أثبتت أنّ العدوّ المشترك أشدّ فعّاليّة من المصالح المشتركة.