مشهدان في بيروت: حزن وغناء على رصيف واحد

مدة القراءة 5 د

مشهد أوّل: بيروت الحزينة

كان يوم أحد. الوجهة شارع الجمّيزة الذي دمّره انفجار مرفأ بيروت. كرّم الشارع ضحاياه وضمّد جراحه وأصلح دماره. هنا إرادة الحياة أقوى من قرار الموت. قصدناه لحضور مهرجان شعبي يتضمّن الموسيقى والترفيه والأكل والشرب… مهرجان يعكس صورة لبنان الفنّ والحياة والانفتاح في مواجهة لبنان الصواريخ والقتل والعزلة. فوجئنا بأنّه أُجِّل بسبب حال الطقس. فانتقلنا إلى منطقة الصيفي للتنزّه. المنطقة الصغيرة بشوارعها الضيّقة ومنازلها الملوّنة تحوّلت إلى استديو كبير للعرسان. عروسات يتنقّلن بفساتينهنّ البيض ويأخذن “البوزات” أمام عدسات الكاميرا وإلى جانبهنّ أزواجهنّ. إنّه يومهنّ. وفي ذاك الرابع من آب كان يوم تلك العروس التي عصف بفستانها الأبيض انفجار المرفأ الأحمر. مشهد حضر في ذاكرتنا حين رأينا العرسان أمام العدسات. يُقال: “كلّ عرس إلو قرص”. عرس تلك الصبيّة كان “قرص” بيروت ولبنان. على الرغم من جمالها وألوانها ووجود العرسان فيها، كان المشهد في الصيفي حزيناً!

 إنّه الظهر. جاع مالك. وكذلك نحن. غامرنا وبدأنا مسيرة البحث عن مطعم نأكل فيه ما توفّر عنده من أطباق وبما هو متوفّر في الجيب، خاصة أنّ نهاية الشهر قد اقتربت. المهمّة ليست سهلة. غالبيّة مطاعم العاصمة أقفلت وهاجر أصحابها. في الصيفي لم يبقَ سوى مطعمين Fully booked. حجز طاولاتهما عدد من الـ 2% من اللبنانيين الذين بقيت لديهم القدرة الشرائية الكافية لارتياد المطاعم. عدنا إلى الجمّيزة الشعبيّة نوعاً ما. هناك توفّقنا بمطعم مقبول وأسعاره معقولة.

أسواق بيروت التاريخيّة مقفرة. واجهات محالّها مكسّرة ومدمّرة من عصف انفجار المرفأ. العديد من الواجهات أغلقت إمّا بالحديد أو بألواح من الخشب

بعد الغداء أخذنا وجهة وسط بيروت. في ساحتَيْ الشهداء ورياض الصلح لا لزوم لاستحضار المشاهد من الذاكرة. فهي لا تزال حيّة. على حيطان بناية العازارية وأعمدتها رسومات وتعليقات (بغالبيّتها ساخرة ونابية بحقّ المنظومة الحاكمة). وكذلك على حيطان مبنى الـ Virgin و Le Gray وغيرهما من المباني. في الطرقات الزفت أسود أكثر من الزفت بسبب الدواليب المحترقة. أرصفة “قُبعت” حجارتها بأيادي “الثوّار” خلال المواجهات مع القوى الأمنيّة القمعيّة. صمت عميق. لا يخرقه سوى ضجّة الـ Skate عليها. شابّ مراهق يتفنّن بقفزات بهلوانية. لم يتوجّه إلى سوريا واليمن للقتال. فهو بحسب الشيخ نعيم قاسم ممّن يضيّعون طاقاتهم الشبابيّة ويرتادون “المراقص والخمّارات ويتعاطون المخدّرات”!

أسواق بيروت التاريخيّة مقفرة. واجهات محالّها مكسّرة ومدمّرة من عصف انفجار المرفأ. العديد من الواجهات أغلقت إمّا بالحديد أو بألواح من الخشب.

بين الصيفي وأسواق بيروت مجلس النواب. كان لا يزال مطوّقاً بالأشواك والحواجز الإسمنتيّة قبل أن تبدأ إزالتها أمس. ممثّلو الشعب يخافون الشعب. قلت لمالك: “هذه ساحة النجمة، حيث مشى يوماً رفيق الحريري مع أحد أحفاده وشرح له عنها وعن المكان وعن لبنان”. أراد “مالك” الدخول. اعتذرت منه. دولتنا تمنعنا. تخاف منك يا ولدي.

في اليوم التالي لزيارتنا أُعطيت الأوامر للقوى الأمنيّة بإزالة الحواجز حول المجلس النيابي، ليس تلبيةً لرغبة “مالك” إنّما لاستيعاب خسارتهم الأكثرية النيابيّة ولتمرير انتخاب رئيس المجلس ونائبه وهيئة المجلس ولجانه. ثمّ سيعيدون الحواجز لأنّهم جبناء.

 

مشهد ثانٍ: بيروت تغنّي

ليلاً كان مشهداً آخر في بيروت. “ليلة أمل”. حفلة فنّيّة راقية. عزف وغناء ولوحات راقصة. تألّقت فيها هبة طوجي. وأبدع أسامة الرحباني. وكالعادة حضرت فيروز ومعها عاصي ومنصور والياس بأغانيهم الثوريّة والوطنيّة والفرِحة مثل “وحياة اللي راحوا”، “لمعت أبواق الثورة” و”كان الزمان وكان”… الحبّ كان حاضراً في “ليلة أمل”. إنّه الأمل في الحياة. كادوا يخطفونه منّا. فالأزمة والانهيار جعلا الشباب اللبناني يخاف الحبّ. في مجتمعنا الشرقيّ الحبّ يجب أن يوصل إلى الزواج. ومَن قادر على هذه الخطوة؟ مَن قادر على شراء منزل وتجهيزه وإقامة حفلة زواج ولو متواضعة؟ قلّة قليلة تُغامر. ومن هذه القلّة أولئك الذين التقيناهم في الصيفي.

أكثر من مرّة ردّدا هِبة وأسامة كلمة “اشتقنا”. اشتقنا للفرح، للغناء، للرقص،… وبالفعل اشتقنا. اشتقنا كثيراً. العالم كلّه استعاد الحياة بعد كورونا. أمّا نحن فاستفقنا بعد الجائحة على “جهنّم” الذي أوصلونا إليه. ولا ندري إلى ما سيوصلنا “جدري القرود”!

إقرأ أيضاً: بين الكتائب والقوّات: تاريخ نضال وشهداء مشترَكون

في “ليلة أمل” برز جمال هبة بفستان أبيض مع فتحة جريئة من تحت، وبرز جمال إليسا (التي شاركت في أغنيتين) بفستان أسود مع فتحة جريئة من فوق، فأضافتا جمالاً على جمال الحفل وموسيقاه ولوحاته الفنّيّة. ربّما لم يُعجب المشهد الشيخ “الجشّي”. وفي الانتخابات المُقبلة سيحذّر المناصرين من التصويت لأطراف معيّنة كيلا يرون بناتهم وشقيقاتهم في حفلات فنّيّة وبفساتين مماثلة.

انتهت “ليلة أمل”. خرج الحضور من قاعة الـ Forum، فوجدوا أنفسهم من جديد في “جهنّم” الذي سيكون أقسى بعد الانتخابات. قمت لأتفقّد “مالكاً” في الفراش. فهو يغطّ في نوم عميق بعد يوم طويل في بيروت.

 

* أستاذ في الجامعة اللبنانية

مواضيع ذات صلة

قمّة الرّياض: القضيّة الفلسطينيّة تخلع ثوبها الإيرانيّ

 تستخدم السعودية قدراً غير مسبوق من أوراق الثقل الدولي لفرض “إقامة الدولة الفلسطينية” عنواناً لا يمكن تجاوزه من قبل الإدارة الأميركية المقبلة، حتى قبل أن…

نهج سليم عياش المُفترض التّخلّص منه!

من جريمة اغتيال رفيق الحريري في 2005 إلى جريمة ربط مصير لبنان بحرب غزّة في 2023، لم يكن سليم عياش سوى رمز من رموز كثيرة…

لبنان بين ولاية الفقيه وولاية النّبيه

فضّل “الحزب” وحدة ساحات “ولاية الفقيه”، على وحدانية الشراكة اللبنانية الوطنية. ذهب إلى غزة عبر إسناد متهوّر، فأعلن الكيان الإسرائيلي ضدّه حرباً كاملة الأوصاف. إنّه…

الأكراد في الشّرق الأوسط: “المايسترو” بهشلي برعاية إردوغان (1/2)

قال “أبو القومية التركية” المفكّر ضياء غوك ألب في عام 1920 إنّ التركي الذي لا يحبّ الأكراد ليس تركيّاً، وإنّ الكردي الذي لا يحبّ الأتراك…