أعلم أنّ “ما كُتب قد كُتب”. فاللوائح الانتخابيّة أُنجزت. والشعارات الانتخابيّة أُعلنت. والحملات في أوجها. والانتخابات بدأت في الاغتراب. ولكنّي أكتب لمرحلة ما بعد الانتخابات. فهذه ليست سوى محطّة. ولكنّها محطّة مهمّة جدّاً بسبب الظروف التي سبقتها وترافقها. فإمّا يقوم بعدها بلد اسمه لبنان أو لا يقوم. وإمّا تكون بعدها جمهوريّة لبنانيّة برلمانيّة ديمقراطيّة، أو تكون بعدها جمهوريّة لبنانيّة – إيرانيّة. وإمّا يكون لنا اقتصاد ليبراليّ حرّ، أو اقتصاد “حزب اللاهيّ”. وإمّا يعود لنا نظام مصرفيّ متطوّر، أو يكون لنا “القرض الحسن”. وإمّا يعود لبنان بلد السياحة للشرق والغرب، أو يصبح مرتعاً لزعماء الميليشيات التي تزعزع استقرار دول الشرق والغرب. وإمّا يعود لبنان مستشفى الشرق يداوي أبناءه ويشفيهم، أو يتحوّل مركزاً للإرهاب الذي يقتل أبناء الشرق. وإمّا يعود لبنان مدرسة وجامعة الشرق، أو يصبح معسكراً لتدريب المجموعات المسلّحة التي تعيث خراباً ودماراً في دول الشرق. وإمّا تعود الصناعة والتجارة والحِرَف وتزدهر في لبنان أو تنتشر فيه صناعة الصواريخ والمسيَّرات (إذا ما صدق السيّد حسن نصرالله) وحِرفة صناعة المتفجّرات.
اليوم يجب النظر إلى المستقبل والإعداد لمعارك ما بعد الانتخابات النيابيّة. وهي تبدأ بمعركة اختيار رئيس للحكومة ولا تنتهي بمعركة انتخاب رئيس جديد للجمهوريّة
المعركة الكبيرة هي إذاً بعد الانتخابات النيابيّة. وهي تتطلّب قيام جبهة سياسيّة عريضة طال انتظارها. دور حزبَيْ القوات اللبنانية والكتائب اللبنانية محوريّ فيها.
ما مناسبة هذا الكلام اليوم؟
تابعت إطلالة رئيس حزب الكتائب سامي الجميّل الأخيرة مع الإعلامي مارسيل غانم عشيّة الصمت الانتخابي الذي سبق تصويت المغتربين. فهو لا يفوّت فرصة للتهجّم على القوّات اللبنانيّة ورئيسها. يرفع شعار السياديّين. ويقول إنّ يده ممدودة للسياديين، وفي الوقت عينه يُهاجم الطرف السياديّ الأبرز: القوات اللبنانيّة!
صحيح أنّ المعركة الانتخابية تتطلّب خطاباً عالي النبرة. لكنّ المشكلة أنّ هذا الخطاب بدأ قبل سنوات من بدء الحملة الانتخابية. وأخشى أن يستمرّ بعدها.
اليوم يجب النظر إلى المستقبل والإعداد لمعارك ما بعد الانتخابات النيابيّة. وهي تبدأ بمعركة اختيار رئيس للحكومة ولا تنتهي بمعركة انتخاب رئيس جديد للجمهوريّة. خاصّةً أنّ ما يجمع بين القوات والكتائب أهمّ بكثير من نقاط الخلاف بينهما والتنافس على بعض المقاعد النيابيّة. وهذا ما أودّ التذكير به في هذا المقال متوجّهاً بشكل أساسي إلى الجيل الشابّ الذي يقود حزب الكتائب، وإلى أقرانهم في القوّات، الطارئين في الحزب، والجيل الجديد الذي بدأ يتسلّم المسؤوليّات.
ما الذي يجمع بين الحزبين؟
1- إنّ بين القوات والكتائب تاريخاً مشتركاً. فالقوات هي التنظيم العسكريّ الذي خرج من رحم الكتائب خلال الحرب. أسّسها بشير الجميّل، الزعيم الأسطورة، ببركة ودعم والده بيار الجميّل الزعيم التاريخيّ ومؤسّس حزب الكتائب. قبل انتخابه رئيساً للجمهوريّة كان بشير يرتدي زيّاً عسكرياً ويضع على زنده الأرزة الكتائبيّة وعلى صدره اسم القوات اللبنانيّة. وكان هذا هو الهندام الرسمي للعديد من الوحدات العسكريّة الأساسيّة في القوّات.
آلاف الشهداء الذين سقطوا قبل استشهاد بشير وبعده هم كتائبيون وقوّاتيون. وهذا ما تشهد عليه غابة الشهيد في طبريه، وتخلّده مدافن الشهداء في سيّدة إيليج
2- سمير جعجع، رئيس حزب القوات اليوم، بدأ حياته السياسيّة في الكتائب. كان عضواً في الكتائب وقائداً لجبهة الشمال في القوّات. وكان قائداً للقوّات حين ترشّح لرئاسة حزب الكتائب في العام 1992. وهي حال العديد من المقاومين في القوّات. كانوا كتائبيّين وقوّاتيّين.
3- القوّات والكتائب من أبرز الأحزاب التي دعمت انتفاضة 17 تشرين. اتُّهِما بأنّهما ركبا موجة الانتفاضة. في حين أنّ الحزبين كانا يُكملان معركتهما ضدّ الفساد التي بدآها في الحكومات وفي المجلس النيابي. لذلك كانت مشاركة القوّاتي والكتائبي في الانتفاضة الشعبيّة عفويّة وطبيعيّة.
4- القوّات والكتائب أكثر الأطراف ثباتاً في معارضة سلاح حزب الله. ويتشاركان العديد من الطروحات السياسيّة: إعادة بناء الدولة القويّة بمؤسّساتها الشرعيّة، تطبيق اللامركزيّة، اعتماد الحياد، الحفاظ على الاقتصاد الليبرالي الحرّ، إعادة بناء القطاع المصرفي، استعادة دور لبنان التاريخي في التعليم والطبابة، استعادة أفضل العلاقات مع المحيط العربي، بقاء لبنان ضمن الشرعيّة الدوليّة،…
5- الأهمّ من كلّ ما سبق على الإطلاق، أنّ للحزبين شهداء مشتركين. فآلاف الشهداء الذين سقطوا قبل استشهاد بشير وبعده هم كتائبيون وقوّاتيون. وهذا ما تشهد عليه غابة الشهيد في طبريه، وتخلّده مدافن الشهداء في سيّدة إيليج. استمرار السجالات والهجومات السياسيّة بين الطرفين، والمعارك الإلكترونية التي يخوضانها بواسطة جيوشهما الإلكترونيّة من وقت لآخر، هو قتل ثانٍ لكلّ شهيد. هذا ما يشعر به كلّ كتائبي وكلّ قوّاتي ناضل في الحزبين أو في أحد الحزبين وكان مشروع شهيد وقت كان الخطر على الأبواب.
إقرأ أيضاً: جعجع للجميّل: أنتَ تخدم الحزب
لأجل كلّ ذلك فإنّه من العبث الاستمرار في الخطاب التخوينيّ والتهجّميّ، خاصة من قبل الكتائب. الفوز بمقعد نيابيّ هنا أو نصف مقعد هناك لا يستأهل كلّ هذا التحريض. بعد الانتخابات، يجب العمل سريعاً على تهدئة الخطاب السياسي والقاعدة الشعبيّة للجلوس إلى طاولة واحدة في جبهة سياسيّة موحّدة، مع أحزاب وشخصيّات أخرى، لمتابعة النضال من أجل تحرير لبنان من الاحتلال الإيراني وإعادة بناء الكيان والدولة والنظام والمؤسّسات والدور. وإلّا فستخسرون مقاعدكم النيابيّة حتى لو ربحتموها. ونخسر كلّنا لبنان الذي ناضل حزب الكتائب لاستقلاله وسقط شهداء الحزبين من أجل بقائه.
* أستاذ في الجامعة اللبنانية