باكراً افتتح رئيس القوات اللبنانية معركة رئاسة مجلس النواب. قال سمير جعجع في أولى مقابلاته، باعتباره رئيس أكبر كتلة نيابية، وأكبر كتلة مسيحية، إنّ انتخاب رئيس مجلس نيابي “لن يحصل كما كان يجري في السابق، وعلى رئيس المجلس أن يكون رئيساً للدولة وليس للدويلة، والتعهّد باستعادة سيادة الدولة واحترام الدستور بالفعل والنظام الداخلي للمجلس والتصويت الإلكتروني”. موقف يمكن فهمه من باب طرح المقايضة باكراً بين رئاستَيْ الجمهورية ومجلس النواب.
في أولى جلساته التي سيدعو إليها رئيس السنّ بعد 15 يوماً من انتخابه، يُفترض بمجلس النواب الالتئام لانتخاب هيئة مكتب المجلس المؤلّفة من رئيس ونائب رئيس وأمينَيْ سرّ وثلاثة مفوّضين. يدعو إلى الجلسة رئيس السنّ فيها، وهو نفسه نبيه برّي، المرشّح لرئاسة المجلس بوصفه المرشّح البديهيّ للثنائي الشيعي في البرلمان في ظلّ عدم وجود نائب شيعي خارج كتلته البرلمانية. ويُفترض بجلسة انتخاب برّي أن تحظى بغالبية الثلثين مثلما يُنتخب رئيس الجمهورية بالاقتراع السرّي بغالبية الثلثين من مجلس النواب في الدورة الأولى، ويُكتفى بالغالبية المطلقة في دورات الاقتراع التي تلي. وهو ما قد يجعل الانتخاب قابلاً للمقايضة، خصوصاً أنّ الغالبية النيابية لم تعُد بيد فريق سياسي بعينه.
بعد 21 الجاري سيغدو برّي رئيساً هذا هو الموعد المحدّد على الأقل، وسيكفل له حزب الله ميثاقيّته المذهبية، لكنّه سيفتقر إلى الميثاقية السياسية
بفعل المزادات التي سبقت الانتخابات النيابية وتلتها على لسان الرابحين، ولا سيّما من بينهم القوات اللبنانية، فلا أكثرية نيابية تضمن لنبيه برّي رئاسته لمجلس النواب التي تنتهي في 21 من أيار الجاري. فلن تكون أصوات ناخبيه مشابهة عدديّاً للدورات السابقة حيث كان يفوز بغالبية تزيد على تسعين صوتاً، ولا سيّما أنّ فريقه السياسي لا يملك الغالبية هذه الدورة.
ما هو المخرج اللائق؟
في مثل هذه الجلسة يُنتخب رئيس المجلس بالأكثرية المطلقة، فإذا كان النصاب 65 فهو يُنتخب بـ33 صوتاً، لكنّها نتيجة قد لا تليق بمسيرته، خصوصاً أنّ المعارِض سينتهي بورقة بيضاء وليس بالامتناع عن التصويت، وقد يعتبرها غير ميثاقية. فما العمل حينها؟ المؤكَّد أنّ الموضوع موضع بحث لإيجاد مخرج يليق برئيس المجلس، خاصة مع وجود كثيرين من النواب القدامى والمنتخبين الجدد ممّن تربطهم علاقة طيّبة معه، لكن مع ذلك لن يكون الموضوع سهلاً.
لو فاز شيعي واحد من خارج ثنائي حزب الله وأمل كانت ستحاول قوى الرابع عشر من آذار بثوّارها وأحزابها أن ترشّحه لرئاسة مجلس النواب. وهي الحقيقة التي كان يدركها حزب الله جيّداً في خضمّ استعداداته للاستحقاق الانتخابي فكان تطويب الرئاسة لبرّي هدفاً من بين أهدافه الاستراتيجية التي منعت فوز أيّ مرشّح شيعي معارض لمنع تسلّله إلى المجلس.
للمرّة الأولى منذ انتخابه رئيساً للسلطة التشريعية قبل ثلاثين عاماً (عام 1992) لن يتسلّم برّي رئاسته على حصان أبيض بفعل إحجام القوات ونواب الثورة المستجدّين على الندوة البرلمانية والمعارضة السنّيّة، عن انتخابه. فيما المتوقّع أن يطلق جبران باسيل حرّيّة التصويت لنواب كتلته النيابية فتتوزّع أصواتها بين مؤيّد ومعارض. اللهمّ إلا إذا استجدّ الاتفاق على الاقتراع بكامل العدد، وهذا مستبعد لأنّ التيار يحمّل جزءاً من خسارة رئيسه لحركة أمل ورئيسها على وجه التحديد.
“لا” ميثاقية سياسية؟
بعد 21 الجاري سيغدو برّي رئيساً هذا هو الموعد المحدّد على الأقل، وسيكفل له حزب الله ميثاقيّته المذهبية، لكنّه سيفتقر إلى الميثاقية السياسية. يقول أحد المتابعين إنّ أسوأ ما يمكن أن يصيب برّي في نهاية حياته السياسية هو ما حاول تفاديه لزمن طويل، وهو غياب كتلة نيابية سنّيّة وازنة عن انتخابه. سيفتقر برّي إلى شرعية وميثاقية سعد الحريري وغطائه، وإلى مظلّة مسيحية كان يوفّرها له التيار الوطني الحر. المؤكّد أنّ جعجع أعلن أنّه لن ينتخبه، وسيكون فرنجية الرمز الماروني الوحيد الذي سيضمن له ميثاقيّة انتخابه.
سيكون رئيساً للمجلس، لكنّه لن يتمتّع بكامل الشرعية السياسية ويحظى بتأييدها، وسيفوز بأصوات أقلّ ممّا كان سيحصل عليه طوال حياته السياسية. هذه الأصوات التي سيفتقر إليها، لها إرثها المعنوي والعددي، أي أنّه سيكون رئيساً بعدد أقلّ من حيث التوزيع الطائفي. هو أكثر من أيّ وقت مضى سيكون هبة حزب الله، وحتّى الصوت “المفرّق” عند التيار، سيهديه له كرمى لعيون حزب الله.
قبل الاستقلال لم تكن رئاسة مجلس النواب من حصّة الشيعة. شغلها الموارنة ثمّ الأرثوذكس في عهد الرئيس بشارة الخوري بعد الاستقلال، وحين انتخب حبيب أبي شهلا رئيساً، قامت قيامة الشيعة، فثبتت حصّتهم بالرئاسة في ميثاق 1943
لاعب في فريق “السيّد”
تمكّن نصر الله من أن يحفظ من الداخل الشيعي استمرار برّي، سواء بحكمة سياسية أو فتوى دينية. فحفظ الاستقرار يكون بحفظ برّي والتمسّك به. لن يكون شريكاً في رسم مستقبل لبنان والمنطقة، بل الواجهة التي وعد نصر الله بالحفاظ عليها. بتقييم حليف الحليف أثبت برّي أنّه قوّة الدفع السلبية في قوى 8 آذار، وأنّه كان قادراً على تعطيل عهد ميشال عون، وأنّ خلافه السياسي معه كان وازناً، وأنّ حساباته الخاطئة جعلت لبنان يدفع الثمن وليس عون، بمعنى أنّه المعرقل الأوّل للإصلاح.
بتوصيف العهد فإنّ برّي الذي انتشى في 17 تشرين 2019 لاعتقاده أنّها الضربة القاضية على عون، لم يتمكّن من أن يخرج ذهنيّاً ولا نفسيّاً ولا بالمصالح من “الترويكا”. بقي يحميها. قبلها دافع عن وليد جنبلاط بكلّ زلّاته، ودفع الثمن سوريّاً. حافظ على رياض سلامة وقصد بعبدا على عجل مستخدماً المروحيّة لمنع المسّ به. يدّعي قيادي في “التيار الوطني الحرّ” أنّ برّي “نجح في أن يؤذي العهد ومعه كلّ اللبنانيين في آخر 3 سنوات من العهد، وسيذكر التاريخ هذه الوقائع”.
الأسعد والحسيني وحمادة
قبل الاستقلال لم تكن رئاسة مجلس النواب من حصّة الشيعة. شغلها الموارنة ثمّ الأرثوذكس في عهد الرئيس بشارة الخوري بعد الاستقلال، وحين انتخب حبيب أبي شهلا رئيساً، قامت قيامة الشيعة، فثبتت حصّتهم بالرئاسة في ميثاق 1943، بموجب الاتفاق مع صبري حمادة الذي كان أوّل نائب شيعي يُنتخب رئيساً لمجلس النواب. كان حضوره شكليّاً لأنّ السلطة كانت مجسّدة حينذاك بالرئاسة الأولى على ما عداها، وكانت السلطة للثنائيّة المارونيّة – السنّيّة.
من رؤساء المجالس الذين تعاقبوا على رئاسة المجلس النيابي بعد الاستقلال: هم حبيب أبي شهلا، صبري حمادة، أحمد الأسعد، عادل عسيران، واستمرّ حتى عهد كميل شمعون، ثمّ صبري حمادة مجدّداً، تلاه لولاية مختصرة كامل الأسعد في آخر أيام فؤاد شهاب، ثمّ صبري حمادة، ثمّ كامل الأسعد لنصف دورة في انتخابات 1968، ثمّ انتُخب مجدّداً من عام 1970 حتى عام 1984 يوم وقع الانقلاب في 17 أيّار، ثمّ حسين الحسيني الذي استمرّ حتى عام 1992، حين طعن بنتيجة الانتخابات، فانتُخب برّي بدعم سوري بعدما طلب الرئيس السوري حافظ الأسد من الحسيني التنحّي لأنّ الأخير لم يقرأ في أبعاد طعنه بنتائج الانتخابات النيابية في أعقاب فوز كاسح لحزب الله في البرلمان ورغبة سوريا بتقصير ولاية المجلس ليتسنّى تعيين رفيق الحريري رئيساً للحكومة بالاتفاق مع السوريين والأميركيين والفرنسيين. وكان الحسيني يرفض رفيق الحريري. حينئذٍ أمسك بالملفّ اللبناني حكمت الشهابي وعبد الحليم خدام اللذان تربطهما علاقة جيّدة مع برّي وجنبلاط .
تحوّل برّي إلى لاعب أساسي في المعادلتين الداخلية والخارجية. يرأس كتلة برلمانية وازنة. يُلمّ بصلاحيّاته البرلمانية فيعرف كيف يلعب لعبة إقرار القوانين أو حفظها في جوارير المجلس متماهياً
وقع الاختيار على برّي وأُدخِل الشيعة في المعادلة. شكّل مع الحريري ورئيس الجمهورية الياس الهراوي “ترويكا” الحكم على امتداد عهدين متتاليين. يسرد نائب رئيس مجلس النواب إيلي الفرزلي في كتابه “أجمل التاريخ كان غداً” حكاية الترويكا وكلمة سرّ التمديد لرئيس الجمهورية الياس الهراوي، وكيف أنّ اللاعب السوري حدّد، في مناسبة اجتماعية، حسم الاستحقاق الرئاسي بالتمديد للهراوي، على أن يلتزم نواب الأمّة بالتعليمة عبر التصويت برفع الأيدي.
ومع انتخاب إميل لحّود خلفاً للهراوي ساءت العلاقة بين الرئاستين الأولى والثانية، وامتعض برّي ضمناً من فكرة التمديد للحّود كما فعل رئيس الحكومة رفيق الحريري، وسُمّيت “أزمة التمديد”. تفاقمت الأزمة وتلاها سيل من الأحداث التي انتهت بانتكاسة في أعقاب اغتيال الحريري في 2005 واتّهام سوريا لبرّي بإسقاط حكومة عمر كرامي بإصراره على نقل الجلسة النيابية مباشرة على الهواء.
خالف برّي التعليمات فاحتجّ كرامي، ومنذ ذلك اليوم لم تعد العلاقة بين برّي وسوريا إلى سابق عهدها. برّي المتّهم بأنّه الأقرب إلى فريق 14 آذار لم يخطئ في خياراته الاستراتيجية. على امتداد ولاياته كان “قائد أوركسترا جريء”. يهابه كلّ رؤساء الحكومات ويقفون على حسن العلاقة معه بوصفه صلة تواصلهم مع حزب الله.
تحوّل برّي إلى لاعب أساسي في المعادلتين الداخلية والخارجية. يرأس كتلة برلمانية وازنة. يُلمّ بصلاحيّاته البرلمانية فيعرف كيف يلعب لعبة إقرار القوانين أو حفظها في جوارير المجلس متماهياً مع لعبة التوازن جيّداً، وممسكاً بمفاتيح أساسية في المجلس، وعليماً بتدوير الزوايا. يسعى الجميع إلى مراضاته.
إقرأ أيضاً: بعد 15 أيّار: لا يُصرف الفوز… إلّا على “الطاولة”
رئيس حركة أمل المدرك لعبة النظام اللبناني عن كثب كان رئيساً لاتّحاد طلبة لبنان. تخرّج من مدرسة عبد الله أحمد للمحاماة، وبفضل دراساته في الحكمة ربطته علاقة طيّبة مع رجال الدين المسيحيين. وريث الإمام موسى الصدر وحركة المحرومين. يعرف لعبة الأحزاب ويتقنها. على امتداد زمانه كانت الأزمات مرهونة بخروج الأرانب من أكمامه قبل أن يشهد الزمن السياسي انحداراً حوَّل مجلس النواب من مجلس تشريع إلى مجلس خدمات وعزاوات. المجلس الذي كان يحضن 13 مشرِّعاً في السبعينيات تحوّل إلى مجلس ملل وحصص تتقاسمها الطوائف والأحزاب للمناكفة فيما بينها.
نبيه برّي باقٍ رئيساً… لكن بأيّ كلفة؟