هناك حدثان شهدتهما الساحة السنّيّة بين اليوم الأخير من شهر رمضان المبارك وصباح عيد الفطر، لهما أبعاد خطيرة على الطائفة السنّيّة التي تعاني ارتباكاً عزّ نظيره، لكنّهما لم يأخذا الحيّز الكافي من الاهتمام بسبب حماوة السباق الانتخابي. الحدث الأوّل هو إعلان حزب التحرير، وهو حزب إسلامي راديكالي، أنّ يوم الأحد هو أوّل أيام عيد الفطر وعدم التزامه بقرار دار الفتوى. والثاني هو التهجّم على مفتي طرابلس والشمال الشيخ محمد إمام لفظيّاً وجسديّاً من قبل إمرأة، عادت ونشرت اعتذاراً قالت فيه إنّها كانت تنتظر السياسيين وليس المفتي.
حزب فكريّ غامض
لم تكن هي المرّة الأولى التي يخالف حزب التحرير قرار دار الفتوى بتحديد يوم عيد الفطر، فقد حدث ذلك في سنوات سابقة، لكنّها المرّة الأولى التي يقوم بها بحملة إعلامية ترويجيّة لهذا القرار. كان بإمكان الحزب الاستمرار في ما حرص عليه طوال سنين، ألا وهو السرّيّة. بيد أنّ ما أقدم عليه هو بمنزلة تمهيد لعمل سياسي ما لا بدّ له أنْ يظهر في المستقبل القريب.
في كتابه “بيت بمنازل كثيرة، الكيان اللبناني بين التصوّر والواقع”، يقول المؤرّخ كمال صليبي: “بعدما أصبح الإسلام ديناً عالمياً، صار العرب مجبرين على تسويغ أي تصرّف قبلي أو إقليمي على أساس مفهوم خاص للإسلام يختلف عن المفهوم العامّ الذي تقول به الدولة. ومن هذه المفاهيم ما كان يختصّ بالفرق الإسلامية الشيعية، مثل الإباضية في عُمان، والزيديّة في اليمن”. بمعنى أنّ محاولات الاستقلال السياسي لا يمكنها النجاح من دون تأويل عقائدي إسلامي مخالف للنهج العام، وهنا بيت القصيد.
المؤسف أنّ هذه الحملات المتناقضة، ومَن يقفون خلفها ويحرّضون عليها، بسبب ضيق أفقهم السياسي وجشعهم السلطوي، لا يجدون وازعاً من تهشيم دار الفتوى ودورها التاريخي من أجل كرسيّ هنا أو هناك
حزب التحرير هو حزب سياسي إسلامي لا يعترف بالدولة الوطنية، ويعتمد الفكر أداة رئيسية في التغيير و”إنهاض الأمّة الإسلامية من الانحدار الشديد الذي وصلت إليه”. تقوم دعوته على وجوب إعادة الخلافة الإسلامية وعودة “الحكم بما أنزل الله”. وهو يحرِّم المشاركة في الانتخابات اقتراعاً وترشّحاً، ويحرِّم أيضاً الديمقراطية ويعدّها “نظام كفر يُحرّم أخذها أو تطبيقها أو الدعوة إليها”. لديه تصوّر كامل لكيفيّة إدارة الدولة الإسلامية يتضمّن كتيّباً عن “أجهزة دولة الخلافة في الحكم والإدارة”، و”مشروع دستور دولة الخلافة” (187 مادّة)، ونظام اقتصادي خاصّ خطّه مؤسّسه القاضي تقيّ الدين النبهاني في كتاب “النظام الاقتصادي في الإسلام”.
هو حزب لا يُعرَف عدد أعضائه، ولا هيكليّته السياسية، ولا كيفيّة الانتساب إليه، علماً أنّه حزب عالمي له امتدادات إقليمية ودولية، وهناك تقارير تتحدّث عن حوالي مليونَيْ عضو، ويكتفي بإصدار بيانات بشكل منتظم، ولا سيّما في بعض المناسبات الإسلامية المنتقاة بعناية.
مرجعيّة سنّيّة موازية
مع أنّ قرار حزب التحرير بمخالفة دار الفتوى استند فيه إلى نصّ شرعي وآراء بعض العلماء حول “وحدة المطالع”، التي تقول بجواز الفطر في حال تمّت رؤية هلال شهر شوّال في أيّ قطر من الأقطار الإسلامية، إلّا أنّ حزب التحرير ومَنْ أيّده من العلماء والجمهور، أو مَنْ برّر له، يتغافلون عن مسألة مهمّة، ألا وهي صلاحيّات دار الفتوى ومرجعيّتها الحصرية في إصدار الأحكام الشرعية الخاصّة بالسُنّة، وإلّا فسيُفتَح باب الإفتاء على مصراعيه وصولاً إلى إنشاء مرجعيّات شرعيّة سنّيّة موازية، ولا سيّما في ظلّ وجود العديد من الفرق السنّيّة التي لديها بعض الآراء الفقهية الخاصّة.
فما الذي يمنع مثلاً جمعيّة المشاريع، أو غيرها، من أنْ تحذو حذو حزب التحرير في المستقبل القريب؟
ليس الأمر قاصراً على تحديد بدء شهر رمضان أو يوم عيد الفطر، بل يتجاوز ذلك إلى الأحوال الشخصية وعقود الزواج والميراث وغيرها. فهل يلتزم أعضاء ومنتسبو حزب التحرير بتسجيل زيجاتهم في المحاكم الشرعية أم لهم ديوان خاصّ بهم؟ وفي حال التزامهم، كيف يمكنهم الأخذ ببعض صلاحيّات دار الفتوى وهيئاتها الشرعية ومخالفة البعض الآخر؟
عموماً لا يحدث هذا الجدل للمرّة الأولى. وكانت الطامة الكبرى قد حدثت مع انتشار وباء كورونا والتزام دار الفتوى باجتهادات كبار العلماء بإقفال المساجد، ثمّ التباعد في صلوات الجماعة، إذ أنكر جمع كبير من المتزمّتين والمُغالين هذه الاجتهادات، الأمر الذي نتج عنه مشاحنات وصدامات داخل بيوت الله وصولاً أحياناً إلى إقامة صلاتَيْ جماعة في الوقت نفسه، واحدة بالتباعد وأخرى بصفّ متلاصق.
حملات سياسية بلبوس دينيّ تتوسّم من خلالها بعض القوى والشخصيّات السياسية ليّ ذراع دار الفتوى وتجيير عمامة مفتيها في خدمة أهدافها الخاصة
دار الفتوى والجشع السياسيّ
من جانب آخر، فإنّ ما تعرّض له مفتي طرابلس والشمال الشيخ محمد إمام صباح يوم عيد الفطر، أمام المسجد المنصوريّ الكبير في طرابلس، من اعتداء لفظي، هو أمر كان متوقّعاً في ظلّ حملات التحريض الهائلة التي يغذّيها البعض ضدّ دار الفتوى، وخاصة في طرابلس، ولا سيّما في الآونة الأخيرة. هي حملات سياسية بلبوس دينيّ تتوسّم من خلالها بعض القوى والشخصيّات السياسية ليّ ذراع دار الفتوى وتجيير عمامة مفتيها في خدمة أهدافها الخاصة.
يستغلّ هؤلاء عدم إلمام العامّة بأدوار الدّار وصلاحيّاتها، وخطابها الوطني والتاريخي المعتدل والوسطيّ، وكذلك التوازنات الدقيقة، الداخلية والخارجية، الواجب مراعاتها. فهل من المعقول أن يكون لكلّ سنّيّ تصوّر خاصّ به لدار الفتوى وللأدوار التي يجب على المفتي القيام بها، بما يجعله يكيل له الانتقادات يمنة ويسرة، وإنْ كان بعضها محقّاً؟
الجدير بالذكر هو أنّه تمّ تكليف الشيخ محمد إمام بمهامّ الإفتاء في أيّار من العام 2020، غداة احتجاجات شعبية “مسيّرة” شهدتها طرابلس لعدم التجديد للمفتي السابق مالك الشعّار لأنّه “مسيّس”. واختير إمام بالتحديد، وبموافقة الجميع، لأنّه محايد ويولي اهتمامه للأمور الشرعية. والمفارقة هي أنّ إمام يتعرّض اليوم لحملات شرسة من قبل القوى نفسها التي حرّضت على خلع سلفه بحجّة أنّه ليس له موقف سياسي، بما يؤكّد أنّ الهدف من كلّ تلك الحملات هو تحويل دار الفتوى إلى منبر موالٍ لِمَن يقف خلفها. أمّا الأبعاد الإسلاموية والطهرانية التي يتمّ تكحيل الحملات بها فهي من عُدّة الشغل ليس إلّا.
يبلغ التناقض أعلى درجاته عندما نجد أنّ مَن يهاجم المفتي إمام، هو نفسه يدافع عن مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان، الذي يحضّ الناس على المشاركة في الانتخابات، في حين أنّ مَن يدافع عن إمام يكيل لدريان انتقادات قاسية.
إقرأ أيضاً: عندما يعشق الحزب عمر… حرفوش
المؤسف أنّ هذه الحملات المتناقضة، ومَن يقفون خلفها ويحرّضون عليها، بسبب ضيق أفقهم السياسي وجشعهم السلطوي، لا يجدون وازعاً من تهشيم دار الفتوى ودورها التاريخي من أجل كرسيّ هنا أو هناك، من دون الالتفات إلى تأثير ما يفعلونه على الشارع السنّيّ التائه، في حين أنّ أكثر ما يحتاج إليه السُنّة اليوم هو وحدة الصفّ للخروج من المحنة التاريخية التي يتعرّضون لها.