بهاء مراد ذو الثلاثة والعشرون ربيعاً، يعيش مع والدته في منزل متهالك في محلّة الرفاعية. كان بهاء عاطلاً عن العمل منذ سنوات، وقد بحث كثيراً عن عمل من دون جدوى، إلى أنْ قرّر ركوب البحر كما فعل شقيقه علاء، الذي سبقه بعدّة سنوات في سلوك الدرب نفسه، وهو اليوم في ألمانيا.
كانت لبهاء ثلاث تجارب سابقة في ركوب البحر للخروج من وطن بات كالسجن الكبير. واحدة تصدّى لها الجيش، وثانية فشلت لأسباب لوجستية، وثالثة نجحت والدته في منعه من اللحاق بها. فكان موعده مع القدر في المحاولة الرابعة ليرتقي شهيداً وشاهداً على ظلم مستمرّ. شقيقه علاء في ألمانيا هو مَن أرسل له المال الذي دفعه للصعود إلى القارب، وكان ينتظره، لكنّ بهاء لم يصل لا هو ولا القارب.
ماهر: البطالة سيّدة للهجرة
بين الفيديوهات التي انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي، والتي تتضمّن شهادات لناجين من القارب، شهادةٌ لشابٍّ عليه بطّانية يستند إلى كتف عسكري وثيابه تقطر ماء قال فيها إنّ طرّاد الجيش تعمّد إغراق مركبهم. هذا الشاب هو ماهر حموضة صاحب الـ22 ربيعاً. يقول والده لـ”أساس” إنّ “ماهر سبق له أنْ حاول الخروج من البلاد بطريقة أخرى، فقد سافر إلى تركيا ومنها إلى اليونان حيث وقع في قبضة الشرطة اليونانية التي أعادته من حيث أتى”.
يقول والد هاشم لـ”أساس” إنّ ابنه لم يدفع شيئاً لقاء صعوده على متن القارب، فالعائلة ليس لديها ما تبيعه لدفع المال المطلوب، لذلك لم يأخذوا من هاشم فلساً واحداً
لا يختلف حال ماهر عن حال بهاء. سنوات وهو يحاول الحصول على عمل من دون جدوى. قرّر الخروج عن طريق البحر على متن القارب الذي هوى، ولم يستطع والده منعه. يقول أسامة والد ماهر لـ”أساس” إنّ “البطالة هي السمة البارزة لكلّ شباب الشارع حيث يقطنون في القبّة، وجميعهم يريدون الفرار من البلد، ومَن لم يكن على متن هذا القارب سيكون على متن قوارب أخرى. فعلى الرغم من الفاجعة التي حلّت بِمَن كانوا على متنه، إلّا أنّ المخاطرة بالبحر تبقى أهون بكثير من البقاء في لبنان حيث يموت الناس في اليوم مئة مرّة”.
سمر: ساعدت الجميع ورحلت
سمر قالوش، البالغة من العمر 45 عاماً، هي موظّفة في صيدلية هوشر الشهيرة في القبّة، يعرفها أغلب أهل المنطقة بالدكتورة سمر، فهي التي كانت تسارع إلى نجدة الجميع في زمن شحّ الأدوية واحتكارها من قبل كارتيلات الأدوية، فكانت تبذل قصارى جهدها لإيصال الأدوية وحليب الأطفال لجيرانها وأبناء منطقتها.
قرّرت سمر الخروج من البلاد مع زوجها ليس بسبب الفاقة، بل هرباً من القهر واليأس، ولم تبلّغ أحداً من أهلها، وهي لا تزال مفقودة حتى تاريخ إعداد هذا التقرير. نجا زوجها الذي لا يجيد السباحة بفضل تعلّقه بكتف أبو إبراهيم الدندشي، ذاك الذي فقد زوجتَيْه وابنته وابنه، واختفت سمر مع النسوة والأطفال الذين كانوا في المقصورة المغلقة من المركب، التي تلقّت الصدمة الكبرى من طرّاد الجيش وهوت إلى قاع البحر.
هاشم: مفقود أم مخطوف؟
هاشم مثلج يبلغ 21 ربيعاً، وقد كان على متن القارب إيّاه برفقة صهره لؤي وشقيقته آلاء. نجا الأخيران لكنّ هاشم ليس له أثر. ثمّة شهود رأوا هاشم في حرم مرفأ طرابلس، وأبلغوا والده بأنّه حيّ، وأنّه تمّ نقله إلى مستشفى طرابلس الحكومي، لكنّ هاشم اختفى. يقول والد هاشم إنّهم تواصلوا مع هيئة علماء المسلمين التي بدورها تواصلت مع الأجهزة الأمنية للبحث عن هاشم، وكان الجواب واحداً: هاشم ليس لدينا. يقول عمّه إنّه تلقّى اتّصالاً من العقيد نزيه بقاعي، رئيس فرع الشمال في مخابرات الجيش، أكّد فيه أنّ هاشم ليس معتقلاً وأنّه في عداد المفقودين.
كانت لبهاء ثلاث تجارب سابقة في ركوب البحر للخروج من وطن بات كالسجن الكبير. واحدة تصدّى لها الجيش، وثانية فشلت لأسباب لوجستية، وثالثة نجحت والدته في منعه من اللحاق بها
يقول والد هاشم لـ”أساس” إنّ ابنه لم يدفع شيئاً لقاء صعوده على متن القارب، فالعائلة ليس لديها ما تبيعه لدفع المال المطلوب، لذلك لم يأخذوا من هاشم فلساً واحداً، خاصة أنّ العائلة تربطها علاقة نسب بآل الدندشي أصحاب القارب. فالرحلة حصلت غداة اتفاق بين مجموعة من العائلات التي تقيم في حيّ واحد، حيّ البقّار في القبّة، وهو ما يدحض تماماً مزاعم تتعلّق بشبكات تهريب واتّجار بالبشر ونظريّات يتمّ العمل على تسويقها للتغطية على الفاجعة.
هاشم وحيد والديه من الذكور مقابل ثلاث بنات. كان رسّاماً مبدعاً منعته الظروف الماديّة القاسية من إكمال تعليمه في إحدى المهنيّات، وهو الذي وصل إلى السنة الأخيرة من الثانوية المهنية (BT) في اختصاص الديكور. تعرض والدة هاشم، التي لم تجفّ دموعها منذ تبلّغها الخبر، رسومات لابنها، واحدة منها رسم فيها قبراً مفتوحاً وكتب عليها: “يا قبر وينك ما تسأل عني، ويا ملاك الموت ما اشتقتلّي؟”، في دلالة بالغة الوضوح على مدى اليأس الذي كان يعانيه.
عمر… وقدر الله
في عام 18 هجري (640 م)، خرج أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب من المدينة المنوّرة حيث مقرّ الحكم قاصداً الشام. فلمّا بلغ موضعاً قرب مدينة تبوك، لقيَه أمراء الجند وعلى رأسهم أبو عبيدة بن الجرّاح، قائد الجيش وأحد أبرز صحابة رسول الله، وأخبروه بتفشّي وباء الطاعون في الشام. فاستشار عمر مَن معه، فأشاروا عليه بالرّجوع إلى المدينة المنوّرة. وعندما أبلغ عمر الجميع بقراره النهائي بالعودة سأله أبو عبيدة: “أفِرار هو من قدر الله؟”، فردّ عليه عمر بمقولة عظيمة الأثر حفظتها كتب التاريخ إلى يومنا هذا: “نعم، نفرّ من قدر الله إلى قدر الله”.
هذا المثال ينطبق على حال مَن قرّروا المخاطرة بأرواحهم وركوب البحر. هؤلاء ليسوا مصابين بمسّ من الجنون كما يحاول البعض تصويرهم. هم أيضاً يفرّون من قدر الله إلى قدر الله. الجنون هو أن تعيش في بلد بلا كهرباء ولا ماء ولا أدوية، والأهمّ من ذلك بلا أمل. أين هو العقل، وأين هي العقلانية عندما نرى أنّ البلد منهار على كلّ الصعد، وفي الوقت نفسه نحن على تخوم انتخابات ستُعيد تجديد شرعيّة مَن أوصل البلد إلى الانهيار.
إقرأ أيضاً: فاجعة طرابلس: 32 مفقوداً ومتّهم يحاكم نفسه!
ولِمَن يتساءل عن عدم سلوك هؤلاء الهاربين الطرق القانونية للخروج من لبنان، هاكم قرار الأمن العام بتجميد منح جوازات سفر جديدة، فأنّى لهم الخروج بطرق قانونية وهم عاجزون عن الحصول على جوازات سفر. حتّى إخراج القيد بات الحصول عليه يحتاج إلى وساطات وسمسرات. تلك السمسرات التي تحدّث عنها المدير العامّ للأمن العام اللواء عباس إبراهيم بنفسه ليست محصورة بجوازات السفر، بل صارت لازمة مع كلّ معاملة رسمية صغُرت أو كبُرت، وبعد ذلك يحدّثونك عن الجنون.