فيينا تصطدم بحائط الحرس الثّوريّ.
هكذا يُمكن تلخيص ما وصلت إليه طاولة المفاوضات النّوويّة بين المجموعة الدّوليّة وإيران. وصارَ الأمر متروكاً لتبادل اللكمات الأمنيّة على امتداد خريطة الشّرق الأوسط، بالطّريقة التي يُحبّها الإيرانيّون.
لم تشفَع لطاولة المفاوضات مسوّدة جاهزة من 27 صفحة تحتوي على نصّ الاتفاق بين إيران والولايات المُتّحدة. فإيران لا تزال مُصرّة على رفع الحرس الثّوريّ وفيلق القدس عن لوائح الإرهاب، ورفع جميع العقوبات المفروضة عليهما، وهذا ما ترفضه واشنطن حتّى السّاعة.
يشير مصدرٌ مُقرّبٌ من الإيرانيين لـ”أساس” إلى أنّ طهران باتت مُحرَجة، فهي لا تستطيع أن تتخلّى أو تلين في هذا المطلب، إذ تصير بالعرف السّياسيّ والدّبلوماسيّ “مُقرّةً” بصفة الإرهاب التي أُطلقت على الحرس وفيلق القدس
ماذا في كواليس فيينا؟
تقاطعت مصادر وزارة الخارجيّة الأميركيّة مع أخرى مُقرّبة من الإيرانيين، على معلومات مهمّة. إذ ذكر المصدران لـ”أساس” أنّ مصير المسوّدة الجاهزة بات مُهدّداً بسبب ما صار يُعرف بـ”عقدة الحرس الثّوريّ”.
ينفرد المصدر الأميركيّ المسؤول بالقول لـ”أساس” إنّ إيران رفضَت اتّخاذ “خطوات” للتهدئة الأمنيّة في الشّرق الأوسط، أو في ما يتعلّق بنيّة الانتقام لمقتل الجنرال قاسم سليماني من خلال استهداف وزير الخارجية ومستشار الأمن القومي في عهد الرئيس ترامب، وكان “أساس” أوّل من كشف هذا الأمر في مقالة سابقة.
أضافَ المصدر الأميركيّ قائلاً: “إيران رفضَت رفضاً قاطعاً مبدأ تقديم التنازلات المُتبادلة بيننا، وبالتّالي لن نرفع الحرس الثّوريّ عن قوائم الإرهاب في حال لم يتعهّد بعدم استهداف حاملي الجنسيّة الأميركيّة في الشّرق الأوسط أو في أيّ مكانٍ في العالم”. وكشفَ أنّ إدارة الرّئيس جو بايدن والفريق المُفاوض برئاسة المبعوث الخاصّ إلى إيران روبرت مالي يتعرّضون لضغوط كبيرة من الجمهوريين وبعض الدّيمقراطيين للثّبات على موقفهم.
هذا في واشنطن.. ماذا في طهران؟
في عاصمة الملالي يبدو أنّ مسألة رفع الباسدران وذراعه الخارجيّة، فيلق القدس، عن لوائح الإرهاب، هو أمر غير قابل للنّقاش.
يشير مصدرٌ مُقرّبٌ من الإيرانيين لـ”أساس” إلى أنّ طهران باتت مُحرَجة، فهي لا تستطيع أن تتخلّى أو تلين في هذا المطلب، إذ تصير بالعرف السّياسيّ والدّبلوماسيّ “مُقرّةً” بصفة الإرهاب التي أُطلقت على الحرس وفيلق القدس.
كشفَ المصدر أيضاً أنّ الولايات المُتحدة أرسلت أخيراً عبر الأوروبيين رسائل إلى طهران لعقد مفاوضات فيينا على مستوى وزراء الخارجيّة، لمحاولة عقد لقاء بين وزير الخارجيّة الأميركيّ أنتوني بلينكن ونظيره الإيرانيّ حسين أمير عبداللهيان، في مسعى لتذليل العقبات أمام الاتفاق. وهذا ما رفضته طهران، على حدّ قول المصدر.
تقاطعت مصادر وزارة الخارجيّة الأميركيّة مع أخرى مُقرّبة من الإيرانيين، على معلومات مهمّة. إذ ذكر المصدران لـ”أساس” أنّ مصير المسوّدة الجاهزة بات مُهدّداً بسبب ما صار يُعرف بـ”عقدة الحرس الثّوريّ”
يُراهن نظام “الثّورة الإسلاميّة” على ما يجري بين روسيا والاتحاد الأوروبيّ في ما يتعلّق بإمدادات الطّاقة. فإيران تملك ثروة من الغاز الطّبيعي قد تفوق تلك التي تملكها روسيا، خصوصاً أنّها لم تبدأ عمليّات التّنقيب في الحقول المُحتملة. لذلك يسود اعتقادٌ في بلاد فارس بأنّ الأميركيين سيأتون مهرولين ما إن يبدأ قيصر روسيا بتوجيه لكمات “تحت الحزام” لأوروبا والغرب في ما يخصّ إمدادات الطّاقة. وهذا ما بدأت ملامحه تلوح في الأفق مع فرض موسكو على الدّول “غير الصّديقة” دفع قيمة الغاز الطّبيعي بالرّوبل الرّوسيّ، وإلا فستواجه قطع الغاز الرّوسيّ عنها.
ماذا بعد الوصول إلى الحائط المسدود؟
هكذا صارَ الإيرانيّون في الملعب الذي يُحبّون. عند تقلّص فرص الاتفاق، دائماً ما تلجأ إيران إلى الضّغط الأمنيّ على الأميركيين. وهذا ما بدأت ملامحه تلوح أيضاً:
أوّلاً: تُقرأ العمليّات التي استهدفت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين في الداخل الإسرائيلي، في إطار الرّد الإيرانيّ على قمّتَيْ النّقب وشرم الشّيخ اللتين جمعتا دولاً عربيّة وإسرائيل بالتزامن مع صعود الأنباء عن إمكانيّة رفع الحرس الثّوريّ عن لوائح الإرهاب.
ثانياً: كَشفَ قائد فيلق القدس إسماعيل قاآني أمس أنّ بلاده أرسلت طائرتيْن مُسيّرتيْن في أجواء فلسطين المُحتلّة، وهو ما استدعى تأهّباً عسكريّاً إسرائيليّاً.
كلام الصورة: الجنرال إسماعيل قاآني أثناء مشاركته في مسيرة “يوم القدس” أمس الجمعة
ثالثاً: حاولت حركتا الجهاد الإسلاميّ وحماس المُقرّبتان من إيران فتح مواجهة جديدة مع إسرائيل عبر إطلاق صواريخ على مستوطنات جنوب فلسطين المُحتلّة. كان لافتاً أنّ تل أبيب لم تنجرّ إلى المواجهة هذه المرّة كما حصل في أيّار الماضي في عام 2021.
رابعاً: زارَ وفدٌ من حركة حماس برئاسة خليل الحيّة العاصمة الإيرانيّة طهران، حيث التقى كبار المسؤولين، وفي مُقدّمهم رئيس مجلس الأمن القومي علي شمخاني. ويدخل في الإطار نفسه الاتصال المُطوّل الذي جرى بين شمخاني والأمين العام لحركة الجهاد الإسلاميّ زياد النّخالة.
خامساً: في الضّربة الإسرائيليّة الأخيرة في محيط دمشق، كشفَت مصادر “أساس” أنّ الغارة استهدفت منظومة “حرب إلكترونيّة” متطوّرة للحرس الثّوريّ الإيراني كان ينوي الأخير استخدامها في التّشويش على الرّادارات وأنظمة الدّفاع الجوّي الإسرائيليّة.
سادساً: كشفَت إيران أنّها بعثت إلى إسرائيل عبر وسيطٍ، علم “أساس” أنّه “بريطانيا وفرنسا”، ما سمّته “خرائط بنك الأهداف” التي تنوي طهران قصفها في حال تعرّضها لهجوم إسرائيليّ على منشآتها النّوويّة.
سابعاً: تستعدّ إسرائيل لإجراء مناورة “مركبات النار” التي تأجّلت العام الماضي بسبب أحداث حرب غزّة. وهي المناورة الكبرى في تاريخ إسرائيل، وستكون هجومية ودفاعية، وستحاكي هجوماً على إسرائيل من كلّ الجبهات، خصوصاً من لبنان، ردّاً على التهديد بـ”ترابط الساحات” الإيرانية الهوى في أيّ حرب مقبلة. وأمس قال الأمين العام لحزب الله: “سنكون على أتمّ جهوزية خلال المناورة، وسنردّ على أيّ هجوم فوراً من دون الاحتفاظ بحقّ الردّ”.
ثامناً: ليسَ تفصيلاً أن يُطلَق صاروخان من سهل القليلة بجنوب لبنان نحو الجليل الغربيّ في وقتٍ كان رئيس مكتب الأمن القوميّ الإسرائيلي إيال حولاتا يصل إلى العاصمة الأميركيّة واشنطن لبحث الملفّ النّوويّ الإيراني.
ماذا في زيارة حولاتا لواشنطن؟
بحسب مصدر مسؤول في مكتب الأمن القوميّ الأميركيّ، فإنّ حولاتا ناقش مع نظيره جايك سوليفان “البدائل” المُتاحة للتّعامل مع إيران مع اصطدام مُحادثات فيينا بـ”حائط” الحرس الثّوريّ. طرح حولاتا على سوليفان القيام بعمل أمنيّ مُشترك لمنع إيران من الوصول إلى القنبلة النّوويّة. هُنا كان سوليفان يقول لنظيره العبريّ: “لم نُقفل الباب بالمرّة مع إيران، وإن قلّت فرص الوصول إلى اتفاقٍ في المدى المنظور، وهذا لا يعني أنّ علينا ترك العمل من أجل Plan B”.
جدير بالذّكر أنّ زيارة حولاتا لواشنطن سبقها اتصالٌ بين الرّئيس الأميركي جو بايدن ورئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت، قال الأخير بعده: “أثق بأنّ صديق إسرائيل الرّئيس بايدن لن يقبل برفع الحرس الثّوريّ عن لوائح الإرهاب. فأمن إسرائيل يعني له الكثير”.
إقرأ أيضاً: تقدّم في الحوار السعودي – الإيراني.. ماذا عن لبنان؟
لا يريد الأميركيّون أن ينخرطوا في نزاعٍ عسكريّ شامل مع إيران، أقلّه حتّى السّاعة. لكن لا يُمكن إغفال كلام المُتحدّثة باسم البيت الأبيض جاين بساكي عن أنّ طهران تقترب من إنتاج القنبلة النّوويّة. في الوقت نفسه، لا بدّ أن ترخي تداعيات المواجهة الرّوسيّة – الغربيّة في أوكرانيا بظلالها على رائحة الغاز الإيرانيّ الذي يُدغدغ أنوف الأوروبيين والأميركيين.
في الخُلاصة، فإنّ مُحادثات “النّوويّ الإيرانيّ” باتت حالياً في أكثر مراحلها هشاشةً وعُرضة للانهيار. ولذلك ستسعى إيران إلى الاستعانة بالحديد والنّار العابريْن للحدود لمحاولة إنقاذها كما كانت أبداً ودائماً ترقص على “حافّة الهاوية”.
فهل تسقط هذه المرّة؟..
الأيّام المقبلة ستجيب.