ليست هذه المرّة الأولى التي أكتب فيها عن طرابلس. ففي “أساس” وحده كتبتُ عنها ثلاث مرّات، وكان هناك همّان: هَمّ “الإسلاميين” المرميّين في السجون من سنواتٍ وسنوات، وهمّ مئات المسارعين إلى مغادرتها بحراً، فإمّا أن يُعادوا بالقوّة أو يفترسهم البحر.
كنتُ أفكّر في كلّ شيء، إلا في أن يحاول فقراء طرابلس مغادرتها في زمن الانتخابات. في طرابلس الآن عشر لوائح، والجميع يحاولون التقرّب من هؤلاء الناخبين الفقراء. لكنْ يبدو أنّ اليأس غلب على كلّ شيء، فما عادت الانتخابات ولا رشاويها الظريفة كافيةً للإمساك برقاب هؤلاء ولو لشهرين أو ثلاثة. ولنتأمّل في أمرٍ آخر. نحن في شهر الصوم، شهر رمضان. والمسلمون يسمّونه شهر الخير. وبالفعل كلّ قادرٍ مهما ضؤلت قدرته يُقبل على الإنفاق في رمضان، من الحصّة الغذائية إلى العطايا الأخرى التي تفوق ذلك. لكنْ مرّةً أخرى اليأس غلب على خيرات رمضان أيضاً.
من المسؤول عن مصائب الطرابلسيين الذين يستمرّ البحر وتستمرّ السجون ونيران القوات الأمنيّة في افتراسهم؟
ما يحصل في طرابلس، وحصل في خزّان الوقود في عكّار، وفي مخيّم نهر البارد، وفي حمص وحلب وفي الموصل والأنبار وصلاح الدين وديالى، والغوطة والقلمون، كلّ هذا كأنّه واقعةٌ واحدةٌ لإهلاك ملايين أهل السُنّة وإذلالهم
دائماً كان في طرابلس شكل من أشكال التمرّد، وهو تمرّد يلبس لكلّ حالةٍ لَبوسها، من القومية العربية والناصرية والعرفاتية إلى الإسلامية والإسلاموية والتشدّد. وفي الحالات هذه كلّها كانت السلطات الطائفية السورية، من السبعينيّات في القرن الماضي إلى الثورة السورية وما بعدها، هي التي تتدخّل وتحاول التطويع والإخضاع، وهم يستعينون بالسلطات اللبنانية منذ التسعينيّات من القرن الماضي أيضاً. وبعد خروج السوريين عام 2005 من لبنان ما توقّفوا عن ممارسات الانقضاض والتكسير، من قصّة “فتح الإسلام” في مخيّم نهر البارد، إلى التعاون الوثيق مع مخابرات الجيش والأمن العام وميشال سماحة من أجل التفجير بداخل المدينة ولا شيء غير.
خلال الخمسة عشر عاماً الأخيرة تسلّطت الأجهزة الأمنيّة العونية والباسيلية، فلم تترك للمدينة حرمةً إلّا انتهكتها. ولنتأمّل إدارة المدينة وماذا صار فيها. فمحافظها “اللي ما بيتسمّاش” أسوأ ممّا يمكن تصوّره، وتصوّروا أنّ مديرة الجمارك بالمرفأ هي زوجة بدري ضاهر رأس الفساد في مرفأ بيروت. وكثيراً ما سمّى العونيون طرابلس “قندهار”، وما أدراك ما قندهار!
“رؤساء” طرابلس
لنصل إلى الدرجة الثانية في المسؤولية مباشرةً. المسؤولون المباشرون قبل العونيين ومعهم هم رؤساء الحكومات الذين توالوا على رئاسة السلطة التنفيذية منذ العام 1990 إلى اليوم. من عمر كرامي الطرابلسي أوّلاً، إلى نجيب ميقاتي الطرابلسي أخيراً. لطرابلس ملفّات تنموية كبرى بيد رؤساء الحكومة من عمر كرامي إلى رفيق الحريري فإلى فؤاد السنيورة فإلى سعد الحريري فإلى تمام سلام وحسان دياب، فعَوداً إلى الميقاتي. في عهود هؤلاء المستمرّة ما نُفّذ مشروعٌ كبيرٌ في طرابلس من أجل فقرائها أو أهل العمل والتجارة فيها. بل في عهودهم سيطر العونيون على الإدارات من طرابلس إلى عكّار. وزير الداخلية في حكومة ميقاتي الحاضرة، كان عليه عند تشكيل هذه الحكومة الخالدة أن يزور جبران باسيل، وأن يتعهّد له بتعيينات في الأمن والقضاء جرت جميعاً. وقد تعجّبنا جميعاً خلال ثورة العام 2019 لماذا أقبل الطرابلسيون “الثوار” على تخريب معالم المدينة، ومن ذلك شارع المصارف والبلدية، بعدما كان أهل المدينة هم طليعة الثورة وحرّاسها. فقيل لنا: هناك الاختراقات، كما أنّ هؤلاء الحرافيش صاروا يكرهون العمران في المدينة، لأنّها لم تعد مدينتهم.
لقد اجتمع على الطرابلسيين الذلّ والقهر والفقر. وطال عليهم الأمد وسط هجران بعض المسؤولين وتآمر بعضهم الآخر. ومهما نسينا فلن ننسى قسوة وعجز رؤساء الحكومات. ولا ينبغي أن ننسى أثرياء المدينة الكبار الذين غادروها إلى المرابع الساحلية خارجها، أو إلى بيروت.
بيد أنّ هؤلاء الذين يحاولون الخروج من طرابلس بأيّ اتجاه لا يخلون بالطبع من المسؤولية. هذه هي المرّة العاشرة خلال ثلاث سنوات التي يحاول فيها عشراتٌ رمي أنفسهم في عُباب اليمّ. ولسنا نعلم أنّ أيَّ محاولةٍ نجحت. وقد كانت أجهزة الرقابة الأمنيّة تتصدّى للمحاولات فتحبطها قبل التدثُّر بالظلمات الثلاث: ظلمة الليل، وظلمة البحر، وظلمة قلّة الحيلة والعجز العقلي وانسداد الأُفق.
لماذا لم تدقّموا باب الخزّان؟
هذه المرّة تأخّر الأمنيون حتى ركب المساكين، محتشدين في الزورق المتصدّع، ثمّ حاول الأمنيون إيقافه وصادموه فغرق، قاصدين لذلك أو غير قاصدين. ولا شكّ أنّ العسكريين يستحقّون اللوم. لكنّ الذين يستحقّون اللوم أكثر هم القائمون بالمحاولة بالفعل، وسماسرة اللؤم. ما نجحتم مرّةً واحدةً أفلم تفكِّروا؟!
في قصةٍ لغسّان كنفاني في الستينيّات يجري تهريب فلسطينيين من العراق إلى جنّة العمل بالكويت في خزّان للنفط ظاهراً. لكنّ بوليس الحدود يوقف الخزّان ويُسائل السائق أكثر من المعتاد. وعندما يتجاوز الحدود يسارع إلى فتح مصراع الخزّان فيجد الجميع موتى لشدّة الحرّ فيقف صارخاً: “لماذا لم تقرعوا على جدار الخزّان، لماذا لم تضربوا بقبضاتكم جدار الخزّان؟”.
نعم أيّها الطرابلسيون الهلكى: لماذا لا تقتلون السماسرة الذين يقودونكم دائماً إلى الهلاك؟ وأنتِ أيّتها الأم النائحة على أولادها كيف تصبرين وأنت تعلمين أنّ فلذات كبدك سائرون إلى الهلاك على أيدي سمسارين أو ثلاثة يعرف الجميع أسماءهم وحرفتهم الإجرامية؟ ويا أيّتها الأمّ الحزينة: لماذا لا تسائلين ميقاتي ماذا فعل لمدينته وبمدينته ولغيره من رؤساء الحكومات؟ لقد أقام يوم حِداد، هو حِدادٌ عليك أيّها الرجل!
إقرأ أيضاً: مرّةً عاشرة: طرابلس المقتولة والقاتلة
يا ربّ العالمين
ما يحصل في طرابلس، وحصل في خزّان الوقود في عكّار، وفي مخيّم نهر البارد، وفي حمص وحلب وفي الموصل والأنبار وصلاح الدين وديالى، والغوطة والقلمون، كلّ هذا كأنّه واقعةٌ واحدةٌ لإهلاك ملايين أهل السُنّة وإذلالهم. إن لم تسعْهم عقولهم، ولا وسعتهم ضمائر حكّامهم، ولا قدرات وإمكانيات التأمّل والتدبير، فلتسعْهم يا ربَّ العالمين رحمتك التي وسعت كلَّ شيء.
من بحر طرابلس إلى سجن رومية فإلى مستنقع العبدة الحدودي، ليس لأهل الشمال غير رحمتك، يا ربّ!