يواجه صمت إيراني واضح العملية العسكرية التركية في محافظة دهوك العراقية ضدّ عناصر وقوّات حزب العمّال الكردستاني، الذي تربطه علاقات تاريخية مع إيران، يمكن وصفها بالجيّدة علاقاتٌ كان يتولّى تنسيقها ضبّاط ارتباط من قوّة القدس في حرس الثورة الإسلامية.
صمتٌ إيراني يُضاف إليه صمت قيادات إقليم كردستان وحكومته إزاء هذه العملية التركية التي تُستخدم فيها مختلف القطاعات العسكرية الجويّة والبريّة داخل أراضي الإقليم ونفوذ الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود بارزاني.
من جهتها، تمارس الحكومة العراقية سياسة “رفع العتب”، بإصدار بيانات إدانة وباستدعاء السفير التركي وإسماعه احتجاجاً شديد اللهجة على هذه العملية. في حين أنّ القيادات السياسية والأحزاب من مختلف المكوّنات كتبت وصاغت كلمات مواقفها من هذه العملية بخيط من حرير، بحيث لا ترقى إلى مستوى الاستنفار لمواجهة ما وصفته بـ”الاعتداء على السيادة العراقية”.
زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر يراقب هذه التطوّرات المتسارعة وهو يمضي أيام صومه السياسي، ويشاهد ما يمرّ به التحالف الثلاثي من استهداف قد يضعضعه، وأنّ الجميع بدأ البحث عن مخارج لأزمة الانسداد السياسي والحكم
يصبّ ضجيج الصمت، الذي يحكم هذه المواقف، في سياق ما يجري طبخه في كواليس الجهود الإقليمية والداخلية بحثاً عن مخارج للانسداد السياسي الذي وصلت إليه العملية السياسية في العراق، وأزمة فشل البرلمان بالانعقاد وانتخاب رئيس جديد للجمهورية، نتيجة تصلّب الأطراف في مواقفها الرافضة لأيّ تنازل عمّا تعتبره استحقاقاً في العملية السياسية.
ما هو مقابل الصمت؟
هو حراك متشعّب بحثاً عن حلول لهذه الأزمة وللخروج من الانسداد، ومن أوّل معالمه، بناءً على معلومات “أساس”، هو التغاضي الإيراني والسكوت الكردي والعراقي عن العملية العسكرية التركية غير المسبوقة في شمال العراق. وكأنّها تجري على أرض لا علاقة لها بالعراق وأرضه، وذلك مقابل دور تركي مساعد في تفكيك عِقَد الأزمة في بغداد وتقديم المساعدة في تحريك العملية السياسية. من خلال ما تملكه أنقرة من تأثير على جزء من القوى داخل المكوّنات العراقية السنّيّة والكردية التي تشكّل التحالف الثلاثي مع التيار الصدري، وجرّها إلى منطق التسوية والتعاون مع القوى المنضوية في الإطار التنسيقي الذي يجمع الأحزاب والفصائل المتحالفة مع إيران وتلك المتضرّرة من مساعي استبعادها عن العملية السياسية.
لا يقتصر الدور التركي على الداخل العراقي، بل يتوسّع للعب دور في إيجاد تسوية بين إيران ودولة الإمارات العربية المتحدة التي تتّهمها طهران وبعض الفصائل والأحزاب بالتأثير على التحالف الثلاثي. وهو ما سمح لبعض القيادات السياسية من مختلف المكوّنات بالحديث عن ليونة إماراتية في التعامل مع المخاوف الإيرانية في ملفّ أزمة الحكم في العراق، بالتعاون مع تركيا. وقد أرسلت أبوظبي إشارات إيجابية إلى إمكان لعبها دوراً لدى حلفائها العراقيين لتسهيل عملية التسوية المرتقبة.
قد تكون الزيارة التي قام بها مسرور بارزاني للإمارات، ومشاركته في مؤتمر الطاقة، قد ساهمتا في تعزيز هذا الاعتقاد. بالإضافة إلى ما شهدته العاصمة التركية حين استقبل الرئيس التركي رجب طيب إردوغان للمرّة الثانية قبل أسابيع قطبَيْ المكوّن السنّيّ في البرلمان العراقي وقائدَيْ تحالف “السيادة” رئيس البرلمان محمد الحلبوسي وخميس الخنجر، ثمّ رئيس حكومة الإقليم مسرور بارزاني بحضور رئيس جهاز المخابرات هاكان فيدان، وذلك بالتزامن مع انطلاق العملية العسكرية.
في موازاة الجهود الإقليمية، التي لا تغيب عن العين الأميركية، فإنّ جهوداً داخلية تجري علانية وخلف الكواليس، تقوم بها قوى الإطار التنسيقي والأحزاب المتحالفة معها من المكوّنَيْن الكردي والسنّيّ، لتدعيم موقفها بانتظار الخطوة المرتقبة في الأسبوع الأول من الشهر المقبل، الموعد الذي فرضه مقتدى الصدر على العملية السياسية بإعلانه “الصوم السياسي” مع بداية شهر رمضان لمدّة أربعين يوماً.
إيران تسحب نواباً من الحلبوسي؟
في هذا الوقت تخوض قوى المكوّن الكردي، بقطبَيْه الحزب الديمقراطي بقيادة بارزاني والاتحاد الوطني بقيادة بافل طالباني، حواراً هادئاً وبعيداً عن الأنظار، بهدف التوصّل إلى تفاهم على حلٍّ لأزمة مرشّح رئاسة الجمهورية.
تشير معلومات “أساس” إلى أنّ إيجابيّات قد تحقّقت في هذا الإطار تدور حول واحد من احتمالين: إمّا التوافق على مرشّح تسوية لرئاسة الجهمورية بدلاً عن برهم صالح وريبر أحمد، وهو ما قد يعيد حظوظ عبداللطيف رشيد إلى الارتفاع، وإمّا موافقة قيادة الاتحاد على نقل الرئاسة إلى الديمقراطي، والتفاهم على تقاسم المقاعد الوزارية والإدارية في الحكومة الاتحادية، مع إمكانية تخلّي الديمقراطي عن غالبية هذه المواقع لمصلحة الاتحاد في هذه التسوية.
في المقابل، تبذل قوى “الإطار التنسيقي”، القريبة من إيران، جهوداً غير عاديّة لتفكيك مصادر قوّة زعيم تحالف “عزم” ورئيس البرلمان الحلبوسي، بالعمل على استمالة عدد من النواب المستقلّين الذين تحالفوا معه إلى صفوفها. ويدور الحديث عن إمكانية إعلان خمسة إلى ستّة نواب من هؤلاء انضمامهم إلى “الإطار التنسيقي” في الأيام المقبلة. نتيجة لذلك لن تبقى المعادلات داخل تحالف السيادة على حالها. لكن بعد إعلان الكتلة الكبرى في الجلسة البرلمانية التي سيجري فيها تكليف رئيس جديد للحكومة. لأنّ الدستور يمنع تنقّل النواب المنضوين في تحالفات قبل هذه الجلسة.
تفريخ زعامات سنيّة
لم يقتصر اللعب لإضعاف زعامة الحلبوسي داخل مناطق نفوذه على تفكيك كتلته وتحالفاته البرلمانية، بل توسّع ليشمل نفوذه الاجتماعي، من خلال تعزيز دور ونفوذ قيادات سنّيّة شابّة وقديمة في محافظة الأنبار. من هنا جاء قرار الإفراج عن وزير المال الأسبق رافع العيساوي والتقارب بينه وبين إياد السامرائي المنشقّ عن زعامة الخنجر في تحالف “عزم”، والذي بات يُعتبر جزءاً من الإطار التنسيقي. تزامن ذلك مع دور لافت بدأ به “سطام أبو ريشه”، نجل الزعيم الأنباري عبد الستار أبو ريشه، الذي فتح مع الحلبوسي معركة تتّصل بالعشائر والتمثيل الاجتماعي، فكان هذا الأمر دافعاً للحلبوسي إلى استخدام نفوذه والقضاء من أجل التصدّي للحراك الذي يقوم به أبو ريشه.
لعلّ الأبرز في هذا السياق عودة الزعيم العشائري الأنباريّ علي خاتم الدليمي إلى الواجهة من جديد، وهذه المرّة من العاصمة الإيرانية طهران، بعدما لعب دور رأس الحربة ضدّ نفوذها في السنوات السابقة، خاصة في إطار ما سُمّي عام 2013 بحراك ساحات الأنبار والمناطق الغربية ضدّ حكومة المالكي والنفوذ الإيراني.
إقرأ أيضاً: تقدّم في الحوار السعودي – الإيراني.. ماذا عن لبنان؟
تصبّ عودة علي حاتم من طهران إلى بغداد، بعد إسقاط جميع التهم الموجّهة إليه بالتحريض على العنف ودعم الجماعات الإرهابية، في سياق معركة تفكيك وإضعاف قوى تحالف السيادة بركنَيْه الخنجر (عزم) الذي كان متحالفاً مع الحاتم في بداية حراك المناطق الغربية، والحلبوسي الذي يسعى إلى أن يكون لاعباً وحيداً على ساحة الأنبار وداخل المكوّن السنّيّ.
لا شكّ أنّ زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر يراقب هذه التطوّرات المتسارعة وهو يمضي أيام صومه السياسي، ويشاهد ما يمرّ به التحالف الثلاثي من استهداف قد يضعضعه، وأنّ الجميع بدأ البحث عن مخارج لأزمة الانسداد السياسي والحكم. فهل يخرج من صومه وتكون الأمور قد استقرّت لغير مصلحته؟ أم يشكّل جزءاً من هذا الحراك بعيداً عن الأنظار، حتى لا تكون التسوية على حسابه، خاصة أنّ الأمور قد تذهب إلى فرض معادلة جديدة تجعل من خيار الحكومة التوافقية حلّاً لا بدّ منه، وبديلاً عن مشروعه في حكومة الأغلبيّة!