في عام 2018 زرت مدينة هيروشيما، وبترتيب من الحكومة اليابانية التقيتُ سيّدة ناجية من القنبلة الذريّة. روت لي أهوال يوم القيامة التي شهدتها وهي طفلة في تلك اللحظة المروّعة، حين أحاطها الموت من كلّ جانب. ولا تزال آثار القنبلة في متحف هيروشيما شاهدة على ما حدث، ومحذّرة ممّا قد يحدث من احتمال حرب نوويّة، يُقدم فيها الكوكب على الانتحار.
تهديد جديد
ما إن بدأت الحرب في أوكرانيا، حتّى جرى رفع حالة التأهّب النووي.
كان ذلك الإعلان مبكراً وصادماً.
بعد قليل قالت موسكو إنّ استخدام السلاح النووي وارد، إذا ما واجهنا خطراً وجوديّاً. وبعد خمسين يوماً من الحرب قال وليام بيرنز مدير وكالة المخابرات المركزية الأميركية: “إذا أُصيب الرئيس بوتين باليأس من الانتصار، لا يمكن الاستخفاف باحتمال استخدامه أسلحة نووية تكتيكية”. وبعد ذلك بيوم واحد كرّر الرئيس الأوكراني زيلينسكي ما قاله مدير “سي آي إيه”.
معظم الرؤوس النووية التكتيكية أقلّ قوّةً من قنبلة هيروشيما، وإنْ كان بعضها يزيد عليها قوّةً، لكنّها لا تصل إلى مئات الكيلوطن مثل القنابل الاستراتيجيّة
الأسلحة النوويّة التكتيكيّة
هناك نوعان من الأسلحة النووية: النوع الأوّل هو “الأسلحة النووية الاستراتيجية”، وهي أسلحة كافية لفناء العالم، والرأس النووي الواحد منها يمكنه تدمير مدينة بكاملها. والنوع الثاني هو “الأسلحة النووية التكتيكية”، وهي أسلحة منخفضة القوّة، يمكنها تدمير منطقة محدّدة، أو قوّات معادية، وهي قليلة الإشعاع.
يمكن أن تُطلَق الأسلحة التكتيكية في ميدان الحرب، ومن المسافات القريبة، إذْ يمكن إطلاقها كقذائف مدفعيّة في المعركة، ويمكن بالطبع إطلاقها برّاً وبحراً وجوّاً.
بالقياس إلى قنبلة هيروشيما يمكن إدراك حجم القنابل النووية التكتيكية. فقنبلة هيروشيما كانت قوّتها 15 كيلوطن، أي ما يعادل 15 ألف طن من قوّة المادّة المتفجّرة “تي.إن.تي”. والآن تبلغ القنابل النووية الاستراتيجية أضعاف قوّة هيروشيما، إذْ تصل قوّة بعضها في الترسانة الروسية إلى 800 كيلوطن، أي ما يزيد على 50 قنبلة بقوّة قنبلة هيروشيما، وفي الترسانة الأميركية توجد قنابل أكثر قوّة وأشدّ فتكاً.
تقلّ قوّة معظم الرؤوس النووية التكتيكية عن قنبلة هيروشيما. إذْ يصل أصغر رأس نووي تكتيكي إلى ثلث كيلوطن، وبعضها 1 كيلوطن، ويصل الرأس النووي الأميركي “دبليو 76 – 2” إلى 5 كيلوطن.
وهكذا فإنّ معظم الرؤوس النووية التكتيكية أقلّ قوّةً من قنبلة هيروشيما، وإنْ كان بعضها يزيد عليها قوّةً، لكنّها لا تصل إلى مئات الكيلوطن مثل القنابل الاستراتيجيّة.
توازن الخوف
تمتلك الولايات المتحدة وروسيا ترسانة مخيفة من الأسلحة النووية التكتيكية. فحسب صحيفة “واشنطن بوست”، تمتلك الولايات المتحدة مئات الرؤوس النووية التكتيكية أغلبها في المخازن، وهناك 130 رأساً جاهزاً للاستخدام داخل الولايات المتحدة، و100 رأس نشرتها واشنطن في أوروبا.
وحسب اتحاد العلماء الأميركيين، تخطّط واشنطن لإنتاج 480 قنبلة نووية تكتيكية أخرى، وسيتمّ تزويد القواعد العسكرية في ألمانيا وبلجيكا وهولندا وإيطاليا وتركيا بعدد من الرؤوس الجديدة. وتقدِّر واشنطن حجم الترسانة الروسية بنحو 2000 رأس نووي تكتيكي، فيكون مجموع ما تمتلكه الولايات المتحدة وروسيا أكثر من 3000 رأس نووي تكتيكي، أكثر من 1000 منها أميركي، و2000 روسي.
القنبلة النوويّة الثالثة
يرجّح الخبراء أن تكون القنبلة النووية الثالثة، بعد هيروشيما وناغازاكي، قنبلة نووية تكتيكية. وفي حرب أوكرانيا اتّهمت موسكو كييف بمحاولة الحصول على أسلحة نووية تكتيكية من الترسانة الأميركية في ألمانيا.
نفت أوكرانيا الاتّهامات الروسية، ثمّ اتّهمت روسيا بأنّها هي التي تخطّط لاستخدام أسلحة نووية تكتيكية في أوكرانيا.
الإطار القانوني الذي ساعد الولايات المتحدة وروسيا في تطوير ترسانة الأسلحة النووية التكتيكية هو عدم تضمينها في معاهدات “ستارت” لخفض عدد الأسلحة النووية، إذْ يتعلّق ذلك الخفض، بشكل أساسي، بالأسلحة النووية الاستراتيجية لا النووية التكتيكية.
واليوم تدرس الولايات المتحدة وأوكرانيا بجدّيّة احتمالات استخدام السلاح النووي التكتيكي، لا سيّما إذا ما تمكّن اليأس من الجيش الروسي.
أبواب جهنّم
يذهب مختصّون إلى أنّ روسيا قد تطلق رأساً نووياً تكتيكياً، لكن ليس على قوات الجيش الأوكراني أو المدن الأوكرانية، بل على منطقة فراغ، أو في المياه قرب السواحل، في إطار تحذيري، بحيث تكون الرسالة واضحة وتفيد أنّه قد تمّ توجيه ضربة نووية تكتيكية من دون خسائر، ويمكن أن تكون الضربة التالية في العمق مباشرة.
تكمن خطورة هذه الضربة النووية التكتيكية التحذيرية في أنّ الناتو قد يتعامل معها كضربة نووية جادّة وليست تحذيرية، وقد لا يدرك الناتو أنّها قنبلة نووية تكتيكية ويردّ عليها بقنبلة استراتيجية. وكان من رأي قادة عسكريين أميركيين في وقت سابق أن يتمّ الردّ على أيّة أسلحة نووية تكتيكية بأخرى استراتيجية.
أكبر خطر في ذلك التطوّر، هو الترويج المستمرّ لكوْن السلاح النووي التكتيكي أقلّ خطراً وأقلّ إشعاعاً، وهو أمر قد يسهِّل استخدام ذلك السلاح. وإذا كان السلاح النووي التكتيكي يطول القارّة الأوروبية بكاملها، فإنّ احتمال تدهور الوضع بعد إطلاق أول رأس نووي تكتيكي وارد بقوّة. وإذا ما أُضيف إلى ذلك تطوير كوريا الشمالية لمنظومة أسلحة نووية تكتيكية، فإنّ الأمر يزداد تعقيداً.
التصوّر السائد بأنّ السلاح النووي التكتيكي ليس في خطورة الاستراتيجي، وأنّ استخدامه يجب أن لا يقود إلى حرب عالمية، هو تصوّر مخيف. ذلك أنّ كسر الهيبة النووية واعتبار السلاح النووي، أيّاً كان مستوى انخفاض قوّته، جزءاً من الحروب المعاصرة، هما أمران كافيان لأن يفتحا أبواب جهنّم.
إقرأ أيضاً: وقف التجسّس “المعلن”: موسكو وواشنطن على حافة خطأ نووي
كان العالم يرى أنّ ذلك الاستخدام في عداد المستحيل، لكنّ بعض المستحيلات صارت في عداد الممكنات، وإذا ما انطلقت القنبلة النووية الثالثة فإنّها لن تكون الأخيرة.
يحتاج العالم، في تلك اللحظة الحمقاء من تاريخه، إلى تحالف العقلاء، لوقف ذلك الاندفاع السريع نحو النهاية. قد لا يرغب بعض قادة العالم في البقاء على قيد الحياة، لكنّ هذا الكوكب يستحقّ البقاء.
* كاتب وسياسيّ مصريّ. رئيس مركز القاهرة للدراسات الاستراتيجيّة. عمل مستشاراً للدكتور أحمد زويل الحائز جائزة نوبل في العلوم، ثمّ مستشاراً للرئيس المصري السابق عدلي منصور.
له العديد من المؤلَّفات البارزة في الفكر السياسي، من بينها: الحداثة والسياسة، الجهاد ضدّ الجهاد، معالم بلا طريق، أمّة في خطر، الهندسة السياسية.