لا ندري لماذا اعتبر الحزبيّون في “الصرفند” أنّ من حقّهم إهانة المرشّحين للانتخابات من معارضيهم وضربهم؟ وكيف سيجرؤ مَن رأى هذا المشهد على التصويت لهؤلاء المضروبين يوم الاقتراع؟
الحزبيّون والمسلّحون ألِفوا هذه “السطوة”، وما عادوا يتصوّرون أنّه يمكن أن يكون لهم خصمٌ أو معارض. ومن نافلة القول بالطبع إنّ معارضي الحزبيّين والمسلّحين لا يمتلكون ضماناتٍ ولا حماية لا في البيئة المحليّة ولا من جانب القوى الأمنيّة. ولست أزعم أنّ الأمر على هذا النحو في كلّ المناطق أو معظمها، بحيث يتحكّم الحزب المسلَّح وأنصاره في إرادة الناس وحرّيّة اختيارهم. لكنّ واقع الإخافة الماديّة أو المعنوية يتجاوز حتى مناطق سطوة الثنائي الشيعيّ.
حرافيش وزعران
فيما يتصدّى هؤلاء الحزبيون والمسلّحون لمعارضيهم بالقوّة في مناطق “الستار الحديدي”، يندفعون لاتّهام مَن يعارضهم بـ”الخيانة”، في المناطق حيث لا يحظون بالسطوة الكاملة. هذا من جانب الترهيب. أمّا في مناطق السُنّة الريفية فهناك اندفاع الإغراء بالمال والحصص الغذائية ووعود السعادة والإسعاد في ظروف الناس الصعبة والصعبة جدّاً. إنّما ذلك لا يكفي، فهناك حرافيش المدن والبلدات وزعرانها الذين تستوعبهم “سرايا المقاومة”، وهم مستعدّون للضرب والإرعاب والسطو والإزعاج بما لا يختلف عن صنيع الأمليّين والمسلّحين في الصرفند وغيرها. ولا يستحي كبار في الحسب والنسب بمدينة طرابلس ومشايخ في عكار من إعلان ولائهم للحزب المسلّح.
أمّا خطاب المقاومين لجمهورهم الخاص فلا يقلُّ عن ذلك جبروتاً واكتساحاً. فهم يذهبون في خطاباتهم وتصريحاتهم إلى أنّ الانتخابات في هذه الظروف بالذات هي فريضةٌ أو جهاد. فمَن يتخلّف عن الاقتراع لـ”أمل” وحزب الله كمَن يتخلّف عن أداء شعيرة الصلاة. أمّا الذين قد لا يؤثّر فيهم ذلك فاستحثاثهم يعتمد على “فروسيّتهم”، إذا صحّ التعبير. إذ الواقع أنّ مَن يذهب للتصويت للحزب المسلّح كمَن يذهب لقتال إسرائيل! فأنت أيّها المسكين العائش في ظلّ نعمائهم واقعٌ بين الفريضة الدينية والواجب الجهاديّ، وكلا الخيارين أحلاهما مُرّ.
على ضفّة الصهر
لننصرف لتأمّل أحوال الطرف الآخر في “تحالف الأقليّات” المستمرّ والمنتصر، وأعني به الرئيس وصهره العتيد. إلى ما قبل خمسة أشهر كانت أوضاع هذا الطرف شديدة السوء، سواء بالمسؤوليّة عن الانهيار العامّ، أو المسؤوليّة عن جريمة المرفأ، أو المسؤوليّة عن الفساد، أو سوء الوضع عند الناخب المسيحي إذا جرت الانتخابات. ثمّ تغيّرت الظروف والسياقات، وبدا لزعيم الحزب المسلّح أن لا غنى عن الجنرال وصهره، وبدا لقسم كبير من المسيحيين أنّ محور المقاومة هذا سائر إلى نجاح، سواء لجهة عودة أميركا إلى الاتفاق النوويّ، أو لاستيلاء إيران على قدرات كبيرة في العراق وسورية ولبنان واليمن، أو لازدهار مسيَّراتها وباليستيّاتها. هكذا تجدّدت آمال الصهر بالخروج من المأزق، وعاد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للتواصل الوثيق، واستطاع عون الذهاب إلى البابا ودعاه إلى زيارة لبنان. وما لم تحقّقه الخطط والأهداف والسياقات الاستراتيجية، يحقّقه قانون الانتخابات الخالد الذي أُنضج قبل العام 2018 بين ميشال عون وسمير جعجع، وقد قال الزعيم المسلّح يومها: “ما وافقنا على القانون إلا وفي اعتبارنا خير المسيحيين واللبنانيين”.
ما استغرق السرور بعودة السفراء العرب إلاّ أقلّ من أسبوعين، ثمّ عاد معارضو الاستيلاء الإيراني للاعتكاف على حساب الأصوات صوتاً صوتاً
تتجدّد آمال الصهر في أن لا ينهزم أمام خصمه اللدود سمير جعجع. بل إنّه لم يبقَ في مواقع الدفاع فشنّ هجوماً مضادّاً، حتّى في المرفأ. وسلّط الشخصية القضائية الفظيعة غادة عون لتثبت أنّ خصوم الجنرال هم الفاسدون، أمّا هو فطاهر الذيل وبريء كبراءة الذئب من دم يوسف. وحتّى الكهرباء التي أنفقت عليها الحكومات أكثر من أربعين مليار دولار، يعود ليضع عبئها على عاتق رئيس الحكومة الذي تحمّل ويتحمّل كلّ شيء باعتبار أنّ “جسمه لبّيس” كما يُقال، ولأنّه يريد أن يبقى رئيساً للحكومة مهما كلّف ذلك.
نتيجة هذه الظروف كلّها، عاد الزهو ليملأ حركة الزعيم المسلَّح، والصهر المجنَّح، فالزعيم يقول متواضعاً: “لا نستطيع الحصول على أكثريّة الثلثين ولا نريد” (!). بينما يُصرُّ المعارضون بشتّى ألوانهم على خوفهم الشديد أن يحصل الحليفان المقاومان على أكثريّة موصوفة في الانتخابات. وهكذا تسود في أوساطهم تشاؤميّةٌ سوداء وإحباطٌ لا منتهى له. أين هم الآن من عهد ثورة 2019، حين كان المقاومون يصرخون مستغيثين: “شيعة شيعة”، وحين كان الصهر الجليل يحتمي بأمن الدولة والحرس الجمهوري.
شماتة أحمد الحريري
ما استغرق السرور بعودة السفراء العرب إلاّ أقلّ من أسبوعين، ثمّ عاد معارضو الاستيلاء الإيراني للاعتكاف على حساب الأصوات صوتاً صوتاً، ولسان حالهم ما كان عليه لسان حال الصهر قبل شهور: “ليت الانتخابات لا تحدث”. حتّى أحمد الحريري، صاحب السمعة العالية، يصرخ شامتاً: “كنتم تطلبون من سعد الحريري الاعتزال وتسليم الأمور للمقاومين لعجزه عن مواجهتهم، فلمّا أعلن اعتزاله ما استطاع أحدٌ منكم سدّ الفراغ، وما عشرات اللوائح في كلّ مكان غير دليلٍ واضحٍ على الفراغ القاتل في غياب الزعيم”.
لقد كان الظنّ أنّ المعارضة بكلّ أجنحتها التي تطالب بالانتخابات من سنتين، ستكتسح الشارع وأصواته. لكن السُنّة ما حقّقوا إجماعاً على ما يريدون وما لا يريدون. أمّا المسيحيون فقد تشرذموا شراذم يتنافسون في الراديكالية، لكنّهم ما عادوا يستطيعون كتمان إحباطهم وهروبهم للأمام.
البطريرك الراعي ذو مزاجٍ آخر. فبقدر ما هو محبط يؤكّد كلّ يوم أحد على ضرورة إجراء الانتخابات في موعدها، ويستعجل انتخاب رئيس جديد للجمهورية بعد الانتخابات. هو يضع آماله في الرئيس الجديد مثلما وضع الجميع من قبل آمالهم في الجنرال. للمرّة الرابعة أو الخامسة، ولمناسبة عيد الفصح كرّر رجل الدين الكبير هذا المطلب، نافد الصبر من الرئيس الحاضر الذي يخشى أن يكون خالداً فيبقى كما بقي بشار.
إقرأ أيضاً: حكومة ما بعد الانتخابات: كلمة السرّ سعودية؟
يُقبل المعارضون على الانتخابات بأقدام متخاذلة ومتردّدة، ومثقلة، لكأنّما صارت الانتخابات غاية، بغضّ النظر عمّن يأتي ولا يأتي.
فمَن الذي سرق النار؟
بالتأكيد ليس جبران باسيل، إنّما مَن يدري، ففي عصر “المقاومة” تتوالى العجائب وتتناطح!