كلّما اقترب موعد الانتخابات يقترب البحث بموضوع رئاسة الحكومة، خصوصاً أنّ معالم المشهد الانتخابي المقبل قد تبلورت وكأنّ موازين القوى بدأت تتمظهر. وإن كان حزب الله كقوّة سياسية فاعلة متخوّفاً من التعاطي معه كأنّه رابح سلفاً. ولا يُلغي انشغال كلّ القوى بالانتخابات النيابية أنّ الهمس المتعلّق بحكومة ما بعد الانتخابات، وهويّة رئيسها، قد بدأ فعليّاً.
خلال المفاوضات مع صندوق النقد ينقل مطّلعون أنّ رئيس الحكومة الحالي نجيب ميقاتي أعطى الوفد المفاوض ضمانات الالتزام بالتنفيذ انطلاقاً من أنّه سيكون حكماً رئيساً للحكومة المقبلة. بقاء ميقاتي يسلِّم به أيضاً قسم من فريق الممانعة الذي يتحدّث عن أنّ الاتفاق الذي أتى بميقاتي رئيساً للحكومة يشترط استمراره حتى الانتخابات الرئاسية لضيق الفترة الفاصلة بين الانتخابات النيابية والرئاسية. يُنقل كلام آخر عن ميقاتي، وفيه أنّ البحث مفتوح على احتمالات عدّة كأن تبقى حكومته لتصريف الأعمال أو يكون رئيساً مكلّفاً وتكون حكومته لتصريف الأعمال، ويتعلّق الأمر بإمكان أن يسهّل عليه الفريق الرابح التكليف أو يضع عليه شروطاً يصعب الالتزام بها. وانطلاقاً من أنّ ميقاتي لن يقبل رئاسة حكومة من دون ضمانات التأليف قبل التكليف كي لا يتجرّع الكأس المرّة مرّتين.
ثمّة توقّعات ترجِّح استمرار الحكومة في تصريف الأعمال إلى موعد الانتخابات الرئاسية، لكنّ مثل هذا الواقع إن فرض نفسه، ستتحوّل الحكومة الحالية عنوان أزمة وليس حلّاً
ما موقف الحزب والسعودية؟
على الرغم من اعتباره أنّ الحديث سابق لأوانه إلا أنّ الثنائي الشيعي يكرّر حرصه على “حكومة وحدة وطنية تعكس من وجهة نظر حزب الله نتائج الانتخابات النيابية”.
احتمال إكمال ميقاتي وارد حتى انتخابات الرئاسة لأنّها حكومة جاءت من أجل الاستقرار ويتمثّل في عدادها كلّ القوى السياسية إلا مَن استثنى نفسه وهم كُثر. ويتعلّق السبب الأهمّ بكون ميقاتي الشخصية التمثيلية الوحيدة المتّفق عليها في غياب سعد الحريري ويحظى بقبول عربي ودولي.
يشير شكل الدخول السعودي على خطّ الانتخابات قبل موعدها الدستوري بفترة وجيزة إلى أنّ المملكة السعودية لن تكون بعيدة عن مرحلة ما بعد الانتخابات. ما استشفّه المقرّبون من السفير السعودي وليد البخاري أنّه سوف تكون هناك قوى سنّيّة وازنة تدور في فلك السعودية ومن دون رئيس وخارج إطار رفيق وسعد الحريري. وهذا يعني أنّ السعودية قد تسعى إلى استجماع الأكثرية السنّيّة ثمّ تجد لها الزعيم لاحقاً. وبذلك يكون دخول المملكة على خطّ الانتخابات واضحاً، وهذه غايته: الإمساك بأكثرية سنّيّة وازنة كورقة للتفاوض يتمّ تطعيمها بنواب القوات وجنبلاط والمستقلّين. فهل تنبثق عن الانتخابات مثل هذه الأكثرية وينبثق عنها رئيس حكومة ترضى عنه المملكة؟ وماذا لو لم تنخرط مثل هذه الأكثرية في تفاهم مع الأكثريّة الشيعية المسيحية؟
كلّ الاحتمالات واردة بعدما انتقلت السعودية من المقاطعة إلى مرحلة الانخراط ولو عن بُعد في عملية الانتخابات. ربّما تعطي نتائج الانتخابات لحزب الله وحلفائه أكثرية وازنة مقابل أكثرية سنّيّة ترعاها المملكة للتدخل حكماً في رئاسة الحكومة.
فهل تدعم رئيس حكومة لا يتناغم مع حسابات الأكثرية النيابية ونكون أمام أزمة تشكيل حكومة ما قبل انتخابات رئاسة الجمهورية؟
الأمر مرتبط بما تريده السعودية وما ستخرج به نتائج انتخابات السُنّة. هنا ليس مهمّاً عدد نواب القوات اللبنانية والحزب التقدمي الإشتراكي، لأنّ عددهم يبقى أقلّ من الرمزية المعنوية التي يمثّلها النواب السُنّة الذين ترتبط بهم رمزيّة رئيس الحكومة.
ميقاتي “الانتقالي”
هل يكون رئيس حكومة كميقاتي قادراً على القفز فوق نتائج الانتخابات وأن يطرح نفسه مجدّداً كمرشّح تسوية بين فريق حزب الله وحلفائه والمملكة؟
اعتاد ميقاتي أن يكون رئيساً لمراحل انتقالية. رأس عام 2005 حكومة بعد استشهاد رفيق الحريري، وعقب الحرب السورية عام 2011، وفي العام 2021 في مرحلة انتقالية حتى استحقاق الانتخابات النيابية. ميقاتي محترف وفق توصيف عارفيه، وأذكى من أن يدخل لعبة السُنّة، ولذا يحاول دائماً أن يدّعي صفة رأس الحربة في الدفاع عنهم. شعاره “أحمي من سبقني ليحميني لاحقاً”. وليس أفضل حالاً الرئيس الأسبق للحكومة تمّام سلام الذي سبق أن اختبرته المملكة، وفؤاد مخزومي الذي ألغى نفسه قبل أن يلغيه الآخرون.
بالموازاة ثمّة توقّعات ترجِّح استمرار الحكومة في تصريف الأعمال إلى موعد الانتخابات الرئاسية، لكنّ مثل هذا الواقع إن فرض نفسه، من وجهة نظر قوى سياسية وازنة، ستتحوّل الحكومة الحالية عنوان أزمة وليس حلّاً.
تضيف هذه التوقّعات أنّه “إذا لم يتمكّن لبنان من تشكيل حكومة ما بين أيار وتشرين الأوّل 2022، فسنكون أمام أزمة طويلة الأمد سياسية واقتصادية، وستتحوّل إلى أزمة مفتوحة على رئاسة الجمهورية. فحين لا تتشكّل حكومة فإنّ هذا المجلس النيابي الجديد المأزوم في تشكيل حكومة جديدة ستكون لديه أزمة حكماً في انتخابات رئاسة الجمهورية”.
يشير شكل الدخول السعودي على خطّ الانتخابات قبل موعدها الدستوري بفترة وجيزة إلى أنّ المملكة السعودية لن تكون بعيدة عن مرحلة ما بعد الانتخابات
في السياق الطبيعي يُفترض أن تفرز الانتخابات النيابية مجلساً له شرعيّته وتنتج عنه حكومة جديدة تبدأ مفاوضات مع صندوق النقد الدولي، في بلد منهار ماليّاً ويحتاج إلى تشريعات. وإلّا تكون الشرعية المنبثقة عن المجلس الجديد قد تلقّت ضربة ستُدخل لبنان حكماً في أزمة مرتبطة برئاسة الجمهورية قد تتحوّل إلى أزمة نظام.
الانتخابات ليست وحدها
هي مرحلة يكمن فيها أكثر من علامة استفهام. وفق منطق الأمور فإنّ نتائج الانتخابات هي التي ستحدّد شخصية رئيس الحكومة وشخصية رئيس الجمهورية. هذا هو منطق الأكثرية الحالية المرجّح أن تفوز مجدّداً. لكنّ الأزمة ليست أزمة اسم بل أزمة توجّه. هل يكون السعودي شريكاً؟ إذا كان الجواب بالإيجاب ففي العام 1992 لم يكن رفيق الحريري منتخباً، بل انتُخب مجلس جديد وكان سليم الحص هو الفائز الأكبر، لكن تولّى رفيق الحريري رئاسة الحكومة. ومن يدري فربّما يُعاد طرح ترشيح شخصيات صداميّة بالنسبة إلى الطرف الآخر.
إذا قرّرت السعودية أن تكون شريكة في الحكم فليست نتائج الانتخابات النيابية وحدها هي التي ستحدّد هذه الشراكة. بل الشراكة الفرنسية – السعودية خاصة بعد إعادة انتخاب ماكرون لولاية جديدة في الرئاسة الفرنسية. ولا بدّ من التذكير هنا بالبيان السعودي – الفرنسي بعد الزيارة الأخيرة للرئيس الفرنسي إلى المملكة الذي كان واضحاً وحاداً تجاه السياسة الإيرانية في المنطقة العربية. فلو كان لدى التحالف الشيعي 70 نائباً، فمَن هو رئيس الحكومة السنّيّ الذي سيقبل بتفويض من دون شرعية سنّيّة ولو بعدد أقلّ من النواب؟ وهل يجرؤ ميقاتي على أن يكون خارج الميثاقية السنّيّة ورئيس حكومة ضدّ السعودية؟
ومَن يشكّل حكومة من دون توافق بالحدّ “الأوسط” مع القوى الأخرى؟ وهل يدخل حزب الله في صراع لم يسبق أن دخل فيه وتجنّبه سابقاً بعدما كاد يرجو الحريري أن يبقى ورفض؟
في حساباته يريد حزب الله وحلفاؤه تشكيل حكومة وحدة وطنية يتمثّل فيها الجميع. والجميع هنا لا تعني القوات اللبنانية التي يرفض حزب الله أن يكون معها في حكومة بعد أحداث الطيّونة، فكيف له أن يرتضي رئيس حكومة على خلافٍ معه؟
إقرأ أيضاً: لماذا تراجعت المنظمات الدولية عن شحن صناديق الاقتراع؟
أبعد من الاعتبارات المحليّة فإنّ المسار الإقليمي هو الذي يحدّد معالم المرحلة الآتية. فإذا قرّرت المملكة أن تكون شريكاً في حكم لبنان فهذا حكماً سيكون إمّا بالتوافق مع سوريا وإيران وفرنسا أو سندخل في سياق خطّ انقسامي. وحينها سنكون أمام أزمة مفتوحة ستبدأ غداة انتخاب مجلس النواب، الذي سيكون منتخباً حديثاً لكنّه مشلول بلا عصب إذا عجز عن تسمية رئيس حكومة وانتخاب رئيس جمهورية لاحقاً.
الأمور مفتوحة على كلّ الاحتمالات، لكنّ أيّاً منها لم ينضج بعد، وإن كانت الحكومة مطروحة للبحث خلف الكواليس.