الانتخابات النيابيّة: الصراع على الهويّة الثقافيّة

مدة القراءة 7 د

تتناقض مقاربات الحزب المسلَّح للانتخابات، أو لنقُل إنّها تتعدّد. فهو حيناً يعتبر الانتخابات المعْلم الحاسم بين معسكرين: معسكر الذين يريدون الاستمرار في مصارعة العدوّ الصهيوني، وأولئك الذين يخوضون مع أميركا واستطراداً إسرائيل. لكنّه في مناسباتٍ أخرى لا يعتبر الانتخابات شيئاً بالغ الأهميّة لأنّ الفساد المالي والسياسي يخالطها، لكنّه يخوضها لأنّ هذه هي قواعد النظام السياسي. وبين هذا وذاك يبرز البُعدان الدولي والإقليمي. فعندما يكون الحزب المسلَّح متضايقاً من شيء (وغالباً ما يكون ذلك الشيء له علاقة بالخارج، أي بإسرائيل أو إيران أو العراق أو سورية أو اليمن)، فإنّه يتحدّث عن “محور المقاومة” في مقابل “محور الاستسلام” أو حتّى “الخيانة”.

في هذا السياق الذي برز بعد حرب العام 2006 يتصاعد الاندفاع باتّجاه الهويّة إنشاءً أو تغييراً. فالحزب هو حزب الوليّ الفقيه. والمال الذي ينفقه هو مال الوليّ الفقيه وإيران. والسلاح الذي يتحدّى به إسرائيل سلاح إيراني، والإنفاق على عوائل الشهداء وعلى المدارس وعلى الحوزات والشأن الثقافي كلّه من إيران. وهذا فضلاً عن المئات الموجودين على الدوام بإيران، وإن تعدّدت أهداف وجودهم للتدريب أو للتعليم.

عندما يكون الحزب المسلَّح متضايقاً من شيء فإنّه يتحدّث عن “محور المقاومة” في مقابل “محور الاستسلام” أو حتّى “الخيانة”

كلّ هذه “المواصفات” تنطبق على حليفٍ وثيقٍ أو تابع يخدم الأهداف الاستراتيجية للدولة الإيرانية. لكنّ زعيم الحزب المسلّح لا يقبل ذلك. فهو ليس جنديّاً في جيش الوليّ الفقيه فقط. والأمر في حالته وحالة حزبه لا يقتصر على الميزات الماديّة، بل الأهمّ الانتماء إلى مذهبٍ واحدٍ، وهويّةٍ واحدة. فهو ابنٌ صالح، وشريك نجيب، وهو لا يعمل للغير، بل يعمل لعقيدته وهويّته وإيمانه ودينه. والأمر يعود إلى زمن التأسيس، وإنْ مضى بالتدريج، من مدارس الأطفال إلى اختيار المقاتلين وتدريبهم، إلى التنظيمات النسائية المتعدّدة. وإلى هذا وذاك صنع هرميّةٍ في الحوزات رأسها بالطبع في إيران. وقد كنت أقول من أكثر من عشرين عاماً: من يريد برهاناً على ذلك الـ Indoctrination     ، فليقرأ كتاب وضّاح شرارة: “دولة حزب الله” (1994). وهو كتابٌ مبكرٌ ومستشرف، لكنّه لا يتناول الأبعاد العميقة للمشروع أو للدين. بل يرى أنّ الحزب يسعى إلى بلوغ أحد هدفين: صنع دويلة على طرف الدولة، أو الاستيلاء على السلطة بالقوّة أو بالتغلغل. بينما نرى مآلات المشروع، الذي ربّما نجح أكثر ممّا توقّعه أنصاره، إلى طموح التغيير في كلّ المنطقة إن لم يكن بالدين فعلى الأقلّ في الهويّة الدينية والثقافية، وفي النهج السياسي والاستراتيجي.

الصهاينة والإيرانيون

كان الصهاينة الأوائل يقولون: ينبغي أن يكون طموحنا أن نصبح جزءاً من المنطقة، وبخاصةٍ أنّنا في قلبها. وهذا هو هدف إيران، لكن ليس أن تكون جزءاً من المنطقة العربية، بل أن تكون سائدةً فيها. وساعة من أجل تحرير فلسطين، وساعة لإجلاء الاحتلال عن لبنان وسورية. لكنّ ضابط الحرس الثوري عندما صرّح قبل سنوات أنّ إيران تحتلّ أربع عواصم عربية، فإنّه ما قال إنّ ذلك كان من أجل التحرير. العمل يجري في كلّ ساعة على إخضاع المنطقة العربية للهيمنة الإيرانية وعن غلبةٍ واقتناع في الوقت نفسه. كما كان الشأن مع آل الأسد الذين ما يزالون يحكمون حتى اليوم. لكنّ آل الأسد اضطرّوا إلى استقدام إيران وميليشياتها، والروس وجيوشهم في السنوات الأخيرة. وما قرّر الإيرانيون ماذا يريدون من سورية بعد، إنّما الغالب أن يظلَّ الأمر على ما هو عليه الآن: احتلال مناطق، وتهجير السكّان، وتشييع البعض، واستتباع البعض الآخر، والوصول إلى المتوسّط، وكلّ ذلك والعنوان لبشار الأسد.

ما استطاع الحزب في العراق وسورية أن يستأثر بالعنوان الذي ظلَّ لغيره، لكنّ أعماله هناك وهنالك مع الإيرانيين لم تختلف. ولا فرق أنّ العراقيين شيعة في الأكثر. أمّا في لبنان فقد استأثر بالعنوان. صار هو المحور عقائديّاً في طائفته، وسياسياً وإدارياً في دولتنا المباركة.

 

لماذا هذه الدورة الطويلة إذا كان الحديث عن الانتخابات، والحزب المسلّح عقائدي؟

لأنّ العقائدية والهويّة المصنوعة حديثاً، كلُّ ذلك يتناقض مع تجديد الخيار كلّ أربع سنوات، وبطرائق يتساوى فيها الحزب المسلّح مع غيره على الرغم من التجاوزات العديدة التي يقوم بها لمصلحته ولا يستطيع أحدٌ الاعتراض عليها.

هو الحزب العقائدي المتفوّق لا يستحسن تعريض نفسه للاختبار كلّ أربع سنوات. وهو يصغي في هذه الدورات إلى تمرّدات وشذوذات لا يحبّها، وكثيراً ما اضطرّ إلى ممارسة العنف ضدّها، وإن لم يبلغ بالعنف إلى أقصاه. كما أنّه بالنسبة إلى الممارسات غير الشرعية، أموالاً وسلعاً ومخدّرات، فإنّه ما كان يميل إليها أوّلاً. ثمّ صار يغضُّ الطرف عنها، ثمّ صار يشارك فيها، وهو الآن يتولّى معظم حلقاتها. الانتخابات غير مريحة، وهو يودّ لو أنّها لا تحصل. لكنّه لا يستطيع أن يترك الحصان وحيداً مثل حصان الشاعر الراحل محمود درويش. فماذا يفعل بعون في شيخوخته؟ وبباسيل في كهولته؟ ليس عنده غيرهما. وحتى لو كان الأمر شكليّاً ومجلس النواب لا يمون على أحدٍ أو شيء، فينبغي أن تظلّ الأكثرية الاسمية مع الحزب وأنصاره. ولذلك يسير بخطىً مثقلةٍ ليودّع الجنرال والرئيس نبيه بري وداعاً حسناً. وإن لم يبدُ التفوُّق حاسماً فالتعطيل ممكن ودائم على كلّ المستويات، وبخاصّةٍ أنّ الهشاشة أكلت كلّ شيء، وما عاد هناك من يُخشى جانبه.

الأعظم مِن همّ الانتخابات (وهمُّ الانتخابات عظيم!) هي مسألة الثقافة التي يختلف بها الحزب المسلَّح عن اللبنانيين الآخرين. هو نمط التفكير، ونمط العيش، وبالطبع الشعائر الجديدة المخترَعة، شعائر الموت والاستشهاد، وشعائر المناسبات التي لا تنتهي. الحزب المسلَّح أنشأ مجتمعاً غريباً يحميه بالسلاح. إنّما إلى متى؟ فحتّى الانتخابات تعرِّض الخصائص العقدية للانكشاف، على الرغم من سهولة الفتاوى! وهذا إلى وجود فئات واسعة من الشيعة لا تشارك الحزب المسلّح رؤاه الدينية ولا الاستراتيجية.

الثقافة الاجتماعية

يمكن أن يتغيّر الطاقم السياسي، وكذلك الاقتصادي. لكنّ الثقافة الاجتماعية التي تضاهي الهويّة أو الطابع لا تتغيّر إلّا في آمادٍ متطاولة. ولننظر ماذا حدث في سورية وسلوك النظام هناك ليس سلوكاً دينياً أو ثقافياً مختلفاً، بل هو طغيان وإفقار، ومع ذلك ما إن انفتحت الأبواب بالثورة، بعد خمسين عاماً من حكم آل الأسد، حتى فرَّ الملايين ولم يردّهم شيء، لأنّ النفوس البشرية تأبى الإذلال والاستعباد. والحزب المسلّح يريد قهرنا حتى في أدياننا وثقافتنا. وهذا فضلاً عن النهب المنظّم مع حلفائه لموارد الدولة ومصادر العيش، ثمّ التصدّق على بعض اللبنانيين ببعض المازوت وبعض الموادّ الغذائية.

إقرأ أيضاً: هنِّئوه من الآن.. “نصرك هزّ الدني”

لا ينبغي الاستخفاف بالانتخابات النيابية حتّى من ناحية الشكل. صحيح أنّه قانون، لكنّه عرفٌ أيضاً، ويعطي الناس إحساساً بإمكان التحرّر من المتحكّمين والفاسدين. هذا التقليد غريبٌ في كلّ الأحوال عن عقائديّات الحزب المسلّح وعن خطابيّاته، وقبل ذلك وبعده عن ثقافة المحاور والأسود والأبيض التي يحاول نشرها. والعرب “في روايته” كلّهم بالأسود، وكذلك خصومه اللبنانيون والعراقيون والسوريون واليمنيون ومن نعرف ومن لا نعرف.

الانتخابات تستعصي على العقائديّات، وتحفل بالبراغماتية، وتستخفّ بأوهام الهيبة والسيطرة والنفوذ. فلتجرِ الانتخابات ولنخُضها على قدمٍ وساق، بثقافتنا وهويّتنا، وليس بثقافة الحزب المسلَّح وحلفائه الأشاوس.

مواضيع ذات صلة

كريم خان يفرّغ رواية إسرائيل عن حرب “الطّوفان”

تذهب المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي إلى المسّ بـ “أبطال الحرب” في إسرائيل، رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، ووزير الدفاع المقال يوآف غالانت. بات الرجلان ملاحَقَين…

هل يريد بايدن توسيع الحروب… استقبالاً لترامب؟

من حقّ الجميع أن يتفاءل بإمكانية أن تصل إلى خواتيم سعيدة المفاوضات غير المباشرة التي يقودها المبعوث الأميركي آموس هوكستين بين الفريق الرسمي اللبناني والحزب…

مواجهة ترامب للصين تبدأ في الشّرق الأوسط

 يقع الحفاظ على التفوّق الاقتصادي للولايات المتحدة الأميركية في صميم عقيدة الأمن القومي على مرّ العهود، وأصبح يشكّل هاجس القادة الأميركيين مع اقتراب الصين من…

الحلّ السعودي؟

ينبغي على واشنطن أن تُدرِكَ أنَّ المملكة العربية السعودية الأقوى تَخدُمُ الجميع، فهي قادرةٌ على إضعافِ قوّةِ إيران، كما يُمكنها أن تدفع إسرائيل إلى صُنعِ…