باهظة ستكون أثمان التفاؤل اللبناني بالتغيير الحقيقي عبر الانتخابات. أغلب الظنّ، أنّ المجلس المقبل سيُهدي ميليشيا حزب الله أكبر الانتصارات، لا لجهة عدد المقاعد البرلمانية وحسب، بل لجهة الميثاقيّة الأكيدة التي ستحوزها بشكل لم تسبق حيازته لأيّ طرف سياسي في لبنان.
إنّها من المفارقات العجيبة، أنّ أكثر المشاريع مذهبيةً في تاريخ الحياة الوطنية اللبنانية، سيخرج من الاستحقاق البرلماني بإمساك مُحكَم بتمثيل الطائفة الشيعية مضافاً إليه تمثيل نصف المسيحيين ونصف السُنّة واختراقات درزية غير مسبوقة، في مقابل تشرذم كلّ القوى المناهضة.
أسباب عديدة تقف خلف هذه المشهديّة المدهشة بعد ثورة 17 تشرين الأول 2019، وانفجار المرفأ في 4 آب 2020، وتفاقم الانهيار الاقتصادي مذّاك، إلى درجة بدء الحديث عن مجاعة محتملة، تغذّيها أزمة واردات القمح والمحروقات بعد الغزو الروسي لأوكرانيا.
تذهب الثورة بقواها العديدة إلى الانتخابات وسط تنازعات بين مكوّناتها تطغى على التنازع بين قوى الثورة وما يُفترض أنّه عدوّ مشترك يوحّد جهودها ومسعاها
تحصل الانتخابات في ظلّ سياق سياسي ومجتمعي يشهد انهيارات كبرى في كلّ البنى، ما عدا بنية ميليشيا حزب الله، أو أنّ هذه الأخيرة هي الأقل تصدّعاً بين المتصدّعين.
لنبدأ من الثورة!
تذهب الثورة بقواها العديدة إلى الانتخابات وسط تنازعات بين مكوّناتها تطغى على التنازع بين قوى الثورة وما يُفترض أنّه عدوّ مشترك يوحّد جهودها ومسعاها.
في صلب أزمة الثورة أيضاً، أنّها بالغت في التعفّف والطهرانية السياسية بحيث أصابت نفسها إصابتين بالغتين:
1- أنّها حرمت نفسها من التجسير مع بعض مكوّنات الواقع السياسي اللبناني، ممّن يحملون، بدرجات متفاوتة، نقمة مماثلة على التركيبة الحاكمة ومصالحها وفسادها وأدائها.
2- بسبب هذه الشمولية الطفولية في انتفاض قوى الثورة على “كلّن يعني كلّن”، جرى دمج خطير للمسؤوليّات وخلط للمخاطر على البلاد، بحيث باتت مسؤولية أضعف السياسيين مساوية، في خطاب الثورة، لمسؤولية زعيم ميليشيا حزب الله حسن نصرالله.
ما فعلته هذه الشمولية أنّها أزاحت موضوع السلاح عن النقاش باعتباره أمّ الأزمات ومقدّمة مقدّمات الانهيار الكبير، وراحت تتلهّى بتدبيج النظريّات كيف أنّ فساد موظّف في دائرة يساوي، بل يتقدّم على، منظمة عابرة للحدود تمتلك مئات آلاف الصواريخ غير الشرعية وتأتمر بأوامر عاصمة أجنبية معادية في العمق لمصالح أغلبية اللبنانيين!!
سذاجة الثورة، بهذا المعنى، لا تنفصل عن وصول الواقع الانتخابي اليوم إلى ما وصل إليه.
أمّا داخل قوى التركيبة السياسية التقليدية اللبنانية فتبرز 3 أعطال رئيسية، تؤدّي في النهاية إلى سيادة حزب الله المرتقبة على البرلمان بشكل غير مسبوق حتى في الانتخابات الأخيرة، حين كانت القوى المناهضة لحزب الله تتمتّع بحدّ أدنى من التنسيق السياسي:
الانتخابات المقبلة مناسبة لإعلان الهزيمة الكاملة أمام مشروع حزب الله الذي سيتسنّى له بعدها “قيادة الدولة والمجتمع” إلى أن تولد ظروف لمشروع مضادّ
1- التشرذم السنّيّ:
كان يمكن لتعليق رئيس تيار المستقبل سعد الحريري مشاركته السياسية وحزبه في الانتخابات المقبلة أن يتحوّل إلى حالة اعتراض وعصيان سياسي، يعيد وضع جذور الأزمة اللبنانية على طاولة التباحث، وأن يعطّل الانتخابات برمّتها، باعتبارها آليّة لشرعنة هيمنة السلاح لا آليّة سليمة لإدارة مصالح المجتمع. بيد أنّه لا خطاب التعليق حمل هذه المضامين بشكل حاسم، ولا التفلّت السنّيّ المتعدّد من قرار التعليق سمح لتطوّر الأمور في هذا الاتجاه السياسي. ما نتج عن ذلك هو حالة من التشرذم السنّيّ الأهليّ والسياسي، أدّت إلى تعطيل قدرة مكوِّن كبير من مكوِّنات الحياة الوطنية اللبنانية على إنتاج حالة مواجهة لحزب الله ومشروعه واندفاعته. سيعزّز حزب الله اختراقه للواقع السياسي السنّيّ، وستنبت على أطراف الواقع السنّيّ حالات مناطقية، وحديثو نعمة وحديثو سياسة، وفلتات أشواط لا يجمعها شيء مع بعضها البعض، في مقابل كتلة سنّيّة وازنة تدور في فلك حزب الله.
2- الأزمة الوجوديّة الدرزيّة:
تتداخل ثلاثة تحدّيات تواجه الحالة الجنبلاطية الدرزية بشكل غير مسبوق في تاريخ هذا البيت السياسي. لا وريث محسوم ولا دور ولا حليف!
أ- تكفي صورة واحدة، كانتشار صور داليا جنبلاط في ذكرى جدّها أكثر من صور شقيقها تيمور، أو خبر زيارة، كخبر مرافقة داليا والدها إلى موسكو، كي يتصدّر القلق أذهان الجنبلاطيين عن مستقبل هذه الزعامة وهويّة وريثها.
انعدام اليقين، أو ضعفه، في موضوع بهذه الحيوية لمستقبل أيّ مجموعة سياسية، ليس من الأمور التي يمكن القفز فوقها بسهولة، كما ليس من الإشارات التي يمكن حملها على محمل العاديّات التي ترافق التوريث والتكهّنات المتّصلة به! هذا دليل على أحوال “أمّة قلقة”، بحسب وصفٍ للشيعة نحته وضّاح شرارة، ويُستعار اليوم في وصف الدروز.
ب- أمّا القلق فمردّه أنّ الجنبلاطية اليوم بلا أيّ من دورَيْها التاريخيَّيْن. فلا هي “بيضة قبّان” في لحظة “اصطراع” مشاريع سياسية، ولا هي “رأس الحربة” في مشروع تقوده كما قاد كمال جنبلاط الحركة الوطنية أو وليد جنبلاط في مرحلتين، أولى حين أسقط مع نبيه برّي نظام المارونية السياسية في انتفاضة 6 شباط 1984، وثانية حين قاد ثورة 14 آذار 2005 وصولاً إلى إخراج سوريا من لبنان.
ج- لا حليف لوليد جنبلاط في المنطقة أو العالم يرى في الجنبلاطية قيمة مضافة لمشروعه ومصالحه. لا سوريا هي سوريا حافظ الأسد، ولا دروز في أوكرانيا ليركب جنبلاط موجة انشغال روسيا في حروبها الأوروبية، ولا العمق العربي معنيّ بلبنان بمثل ما كانت عنايته في العقود التي رافقت تشكّل التجربة السياسية لوليد جنبلاط في الثمانينيّات ونضوجه في التسعينيّات وتألّقه بعد اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري.
3- الترهّل المسيحيّ:
منذ مقاطعة العام 1992 بدأت الحيوية المسيحية، في ذروة ما سُمّي آنذاك “الإحباط المسيحي”، تبذر بذور الخطاب السيادي في لبنان، من الدور الجبّار للكنيسة المارونية بقيادة البطريرك الراحل مار نصرالله بطرس صفير، إلى تحويل نادي الحكمة لكرة السلّة إلى نادي السياديين وفخرهم، وما بين الاثنين، الحركة الطالبيّة في الجامعات، ولا سيّما طلاب القوات والتيار الوطني الحرّ، والنضال السياسي في المنفى، للرئيسين أمين الجميّل وميشال عون.
لا شيء من ذلك الآن. فالعونية السياسية جعلت من اللحّوديّة تجربة عابرة في مدرسة الالتحاق والذمّيّة. والقوات اللبنانية، فقدت من حيويّتها ونضارتها، على الرغم من كونها الأقرب إلى تمثّيل الإرث المسيحي السيادي والدولتي. وحزب الكتائب بقيادة سامي الجميّل الذي كان يمكن أن يكون رافعة موضوعية للثورة، منذ أن انحاز إلى البرنامج المدني عام 2015، حوّلته الثورة إلى عنوان انقسام لصفوفها فآذته وتأذّت من الانقسام حوله. أمّا الكنيسة المارونية، وعلى الرغم من المواقف المتقدّمة لسيّدها في مسألة الحياد، تعاني صورتها من أزمة عدم الثبات السياسي والوطني، ولا تبثّ قدراً كافياً وثابتاً من الثقة المطلوبة لأن تتزعّم وتقود حالة سياسية نضالية بمثل ما قادت الكنيسة فيما مضى.
أضف إلى كلّ ذلك أنّ أيّ حالة مسيحية سيادية ترتبط حيويّتها بأفق واضح لمشروع الدولة، في حين أنّ ما يعانيه لبنان اليوم من يأس شبه تامّ يغلّف الغد، وما تدلّ عليه حالات النزف المستمرّ للبشر والمؤسسات، لا يترك المجال لأيّ حيويّة سياسية ونضالية.
الانتخابات المقبلة مناسبة لإعلان الهزيمة الكاملة أمام مشروع حزب الله الذي سيتسنّى له بعدها “قيادة الدولة والمجتمع” إلى أن تولد ظروف لمشروع مضادّ. وهذا المشروع لا يمكن أن يولد إلّا من رحم المتغيّرات التي تحفّ بالمنطقة وأبرزها موجة السلام العربي السنّيّ الكبير مع إسرائيل. أمّا مقدّمة ذلك لبنانياً، فكان يمكن لها أن تكون عبر إعلان العصيان السياسي والدستوري بالكامل وعزوف كلّ المأزومين عن المشاركة في الانتخابات، إلا حين تحرير البلاد والمؤسّسات والنظام من احتلال السلاح.
إقرأ أيضاً: ميشال عون وسلاح الحزب… ودبّابات صدّام
السلاح أوّلاً وقبل كلّ شيء. والسلام أوّلاً وقبل كلّ شيء.
أما وأنّ الشجاعة الفكرية والسياسية والثورية في لبنان مفقودة، فهنيئاً لحزب الله.. نصرك هزّ الدني!