هل يفيق العقل السياسي العربي من غيبوبة “الاعتمادية” على أيّ حليف كبير من الخمسة الكبار؟
أهمّ ما في الدرس نستخلصه من الحرب الروسية-الأوكرانية التي تبيّن أنّنا أمام عالم مرتبك مضطرب يعاني سوء التقديرات الاستراتيجية، ويحاول صياغة قواعد جديدة لموازين قوى متغيّرة تماماً.
إنّ قواعد العلاقات الدولية وتوازناتها الاستراتيجية التي كنّا نعرفها منذ الحرب العالمية الثانية ثمّ الحرب الباردة، ثمّ الوفاق، ثمّ ما بعد سقوط حائط برلين وسيادة النفوذ الأميركي، سقطت وتجاوزتها حقائق القوى الاقتصادية والتكنولوجية الجديدة.
تبدو الحرب الأوكرانية للوهلة الأولى وكأنّها حرب بين الروسي والأوكراني، أي حرب محدودة في مساحة جغرافيّة هي أوكرانيا، والحقيقة أنّها حرب كونية يشارك فيها الجميع سواء بالدعم أو الخسارة!
أهمّ ما في الدرس نستخلصه من الحرب الروسية-الأوكرانية التي تبيّن أنّنا أمام عالم مرتبك مضطرب يعاني سوء التقديرات الاستراتيجية، ويحاول صياغة قواعد جديدة لموازين قوى متغيّرة تماماً
حرب أوكرانيا أيضاً مثلها مثل فيروس كوفيد 19 لم تنجُ منها أيّ دولة أو اقتصاد من كلّ سكان كوكب الأرض.
يخطئ تماماً من يفكّر بشكل تقليدي ويحكم بمعاييره القديمة على حرب غير تقليدية.
هذه ليست أزمة “وحَ تعدي” أو صراعاً “وراح يمرق” أو حرباً محصورة بين طرفين متحاربين.
هذه حرب “بروفة تجريبية” لتحديد مراتب ومراكز من هو المؤثّر في هذا النظام الكوني الجديد.
لا تفاهم استراتيجياً بعد على مناطق النفوذ، ولا قبول لكلّ طرف بمصالح الآخر.
يريد الروسي والصيني استثمار تقدّمهما الاقتصادي والتكنولوجي، ويريد الأميركي والأوروبي تعطيل هذا الصعود، وأن يمنعاهما من استثمار القوة الاقتصادية-التجارية الصاعدة في النفوذ السياسي.
هناك من يريد استثمار قوته، وهناك من يسعى لاستنزاف هذه القوة بتوريطه في صراع مكلف وعقوبات مدمّرة تعطّل هذا الصعود.
هنا يصبح السؤال: أين الشرق الأوسط من تداعيات هذه الأزمة، وهذا العالم الشديد التغيّر؟
بداية الخيط الصحيح يبدأ من الفهم العميق لحقيقة ما هو حادث.
علينا أن نتجرّد من قواعد الماضي وأوهام وجود حليف دولي نثق به ونعتمد عليه في أمننا وسلاحنا وغذائنا ومواردنا الطبيعية.
يجب أن يكون فهمنا أنّ العرب لن ينقذهم سوى أنفسهم.
سوف يثبت التاريخ قريباً أنّ سياسة التخلّي الاستراتيجي التي اتّبعها الديموقراطيون والرئيس الأميركي جو بايدن هي أسوأ تقدير استراتيجي أقدمت عليه السياسة الخارجية الأميركية اتجاه مصالحها أوّلاً، واتجاه حلفائها العرب ثانياً.
من هنا يمكن فهم “السياسة الخشنة” التي أظهرتها كلّ من أبوظبي والرياض وتل أبيب اتجاه واشنطن أخيراً.
لا يمكن قبول تسليم واشنطن مصالح المنطقة لطهران وإعادة تأهيلها ورفع العقوبات عنها الذي سيوفّر لها سيولة سوف تستخدمها لتدعيم أدواتها في المنطقة.
باختصار انتهى شهر العسل الأميركي في المنطقة الذي استغرق أكثر من 72 عاماً.
وباختصار أيضاً أصبح لزاماً على الدول العربية المركزية (مصر، السعودية، الإمارات) أن تعيد صياغة رهاناتها الإقليمية ورهاناتها الدولية وقد بدأت.
من هنا، من هنا فقط، يمكن فهم الآتي:
1- مصالحة الرياض للدوحة وبدء حوار مبدئي مع طهران، وفتح قنوات مع أنقرة.
2- حوار أبوظبي مع أنقرة والدوحة وطهران ودمشق.
3- تبادل زيارات أبوظبي مع الرئيس السوري ورئيس الوزراء الإسرائيلي.
4- ثبات أبوظبي والرياض على سياستهما النفطية في كميات الإنتاج حسب مصالحهما الوطنية على خلاف رغبة إدارة بايدن.
5- امتناع الإمارات الممثّلة للمجموعة العربية في مجلس الأمن عن التصويت على القرار الأوكراني.
6- حدوث لقاء تشاوري مهمّ جدّاً بين مصر وإسرائيل والإمارات في شرم الشيخ.
7- إعلان الأمير محمد بن سلمان في لقائه المهمّ مع مجلة “أطلانتيك” الأميركية أنّ “إسرائيل من الممكن أن تكون حليفاً محتملاً” بعد إيجاد حلّ شامل للقضية الفلسطينية.
8- انفتاح كلّ من القاهرة والرياض وأبوظبي على طرفَيْ الصراع في أوكرانيا، وعدم التورّط في موقف انحيازي، وتغليبها لمبدأ الحوار والحلّ السياسي للصراع.
ليست الأزمة في سلوك هذه الدول التي أدركت عمق ما هو حادث، لكنّ الأزمة في سلوك سياسات خارجية لدول مثل لبنان واليمن وسوريا وإيران التي تصبّ النار فوق الزيت.
هؤلاء ما زالوا يلعبون لعبة جديدة تماماً بالقواعد القديمة البالية نفسها التي تجاوزها الواقع الاستراتيجي.
النظريات التآمرية في حال اللجوء إليها في مدارس التحليل السياسي تؤدّي بالضرورة إلى التغيير الشديد أو العدواني أو الشيطاني لأطراف أو طرف من أطراف أيّ صراع.
في الحرب الأوكرانية-الروسية يمكن تسجيل الغباء السياسي في قرارات إدارة بايدن الخاصة بالعقوبات!
مثلاً، ارتفعت تكاليف السلع المصنّعة في أوروبا ما بين 10 إلى 20 في المئة لمواجهة ارتفاع أسعار الطاقة.
مثلاً، ارتفع سعر صفيحة البنزين في الولايات المتحدة وأوروبا بنسبة 25 إلى 35 في المئة على المستهلك الفرد.
مثلاً، اشترت الهند منذ أيام 3 ملايين طن من النفط الروسي مباشرة من موسكو، وتمّ البيع بالروبية الهندية وليس بالدولار!
سوف يخلق هذا الوضع حالة جديدة من القبول الدولي بالخروج عن مبدأ تسعير الطاقة بالدولار واللجوء إلى عملات محلية مثل الروبية الهندية أو اليوان الصيني.
من الخسائر الكبرى للسلوك الأميركي والإدارة الحمقاء غير العميقة للصراع، اضطرار الولايات المتحدة إلى التنازل عن “مواقف مبدئية” كانت تدّعي أنّه لا يمكن التنازل عنها
شارك الجميع في جريمة حرب كونية هدفها الحقيقي والأكيد هو “اختبار معايير القوة” للكبار من أجل 3 أهداف:
1- صياغة مراكز قوة جديدة.
2- بناء مراكز نفوذ استراتيجي جديدة.
3- إحداث تباطؤ اقتصادي لروسيا والصين يعطّل الصعود الاقتصادي والتجاري لهما.
المأساة الكبرى في “الغباء السياسي” و”فشل تقديرات الموقف الاستراتيجي” للجميع، بلا استثناء، أنّ كلّ الأطراف دفعت ثمناً “مخيفاً”، سواء الفاعل أو المفعول به أو غير المشارك.
حتى كتابة هذه السطور، تكبّد العالم نصف تريليون دولار خسائر مباشرة، ولم نعرف بعد الخسائر غير المباشرة.
من الخسائر الكبرى للسلوك الأميركي والإدارة الحمقاء غير العميقة للصراع، اضطرار الولايات المتحدة إلى التنازل عن “مواقف مبدئية” كانت تدّعي أنّه لا يمكن التنازل عنها:
مثلاً، اضطرّت الإدارة الأميركية إلى زيارة فنزويلا وفتح حوار مع الرئيس مادورو، الذي ظلّت لسنوات لا تعترف بشرعيّته وفرضت عقوبات على نظامه ومنعته من بيع وتصريف النفط الفنزويلي، وذلك من أجل استخدام الاحتياط الفنزويلي الذي يُعتبر الأضخم في العالم لتعويض تأثير العقوبات على النفط والغاز الروسيين.
مثلاً، أصبح الموقف التعارضي لواشنطن مع إيران في فيينا أكثر ضعفاً وهشاشةً، وأدركت طهران أنّ الأميركيين يريدون الاتفاق معها الآن بأيّ ثمن وبأيّ كلفة من أجل رفع العقوبات، وإعادة إيران إلى أسواق النفط والغاز.
لا يمكن لدولة عظمى أن ينطبق عليها صفة “العظمة” وهي لا تتمتّع برؤية استراتيجية واضحة وبصيرة سياسية عميقة، وقدرة على إدارة الصراعات بحكمة، وإيقاف الأضرار ببراعة، ومنع الفوضى بمهارة.
تمتلك الولايات المتحدة الأميركية كلّ شيء يؤهّلها كي تكون رئيسة مجلس إدارة العالم إلا الرؤية والبصيرة والحكمة!
وعلى الرغم من وجود معاهد علوم الإدارة العليا في الجامعات ومراكز الأبحاث في أميركا، إلا أنّ واشنطن تتعامل منذ أربعة عقود بشكل كارثي في إدارة ملفّات السياسة الخارجية.
وكأنّه جدار برلين يعود للسقوط، لكن أمام الكابيتول في العاصمة الأميركية، معلناً نهاية الرؤية الاستراتيجية للعقل السياسي الأميركي
لاحظوا غزو العراق وأفغانستان، ولاحظوا الخروج المرتبك من كابول أخيراً، والانسحاب المخزي من الخليج العربي، وفشل الدور في سوريا، وإثارة الفوضى في بلاد الربيع العربي.
لاحظوا ارتباك المواقف الأميركية من جماعات الإخوان المسلمين وداعش والقاعدة وجبهة النصرة والطالبان وحماس والحشد الشعبي وحزب الله!
لاحظوا محاولات الإدارة الأميركية إعادة تأهيل كلّ من الحوثي والحرس الثوري الإيراني على الرغم من تصنيفهما بشكل واضح وصريح كمنظمات إرهابية في زمن سابق وقصير!
لاحظوا كيف لا يوجد اتفاق أو انسجام بين سياسات واشنطن ومصالح حلفائها في أوروبا واليابان وأميركا اللاتينية ودول الخليج العربي.
تسقط القوى العظمى من زعاماتها وأحزابها القائدة، وما نشهده هذه الأيام يؤكّد ذلك أميركياً!
يجب على المتابع للملفّ الأميركي أن يلاحظ حجم الدين العام التراكمي الأميركي الذي يجعل كلّ مواطن أميركي أكثر سكان العالم مديونيةً لمدة 50 عاماً مقبلة!
يجب متابعة حالة المنافسة الشديدة التي يتعرّض لها المجمع الصناعي العسكري الأميركي في ظلّ منافسة حادّة ومستعرة مع الصناعات العسكرية لكلّ من الصين وروسيا وفرنسا وبريطانيا وكوريا الجنوبية والبرازيل واليابان وبولندا وبلجيكا.
يجب متابعة الصعود المذهل للاقتصاد الصيني العملاق الذي حقّق معدّل نموّ عام ما بين 10 و11 في المئة لمدّة عشر سنوات، ثمّ انخفض متراوحاً بين 6 و8 في المئة في زمن الكورونا، وهي معدّلات قياسية تاريخية غير مسبوقة.
إنّها حالة من الشيخوخة في أسلوب القيادة الأميركية للعالم، فلم تعد واشنطن وحدها هي عاصمة المال والسياسة والتكنولوجيا والبرمجيات والفنون في هذا العصر.
وكأنّه جدار برلين يعود للسقوط، لكن أمام الكابيتول في العاصمة الأميركية، معلناً نهاية الرؤية الاستراتيجية للعقل السياسي الأميركي.
أهمّ الدروس المستقاة من المهزلة الروسية-الأوكرانية أن لا أحد، وأكرّر لا أحد، من الخمسة الكبار (أميركا، روسيا، الصين، فرنسا وبريطانيا) يمكن الرهان الاستراتيجي عليه كحليف في صراعاتنا الإقليمية ولا في أمننا القومي.
الأخطر أنّ مستلزمات الحياة الحيوية ليست في أمان في ظلّ تلاعب الكبار بها.
لا يمكن أن نشعر بأمان حتى نوفّر:
1- الأمصال والأدوية.
2- السلاح المؤثّر الحديث.
3- الموادّ الغذائية الأساسية، وتحديداً القمح والغلال.
4- الطاقة بكلّ أنواعها.
5- أرصدتنا واستثماراتنا في بنوكهم وشركاتهم وعقاراتهم.
إقرأ أيضاً: بايدن وبوتين: حافّة الهاوية.. التي “زحلت”
من هنا نفهم الدرس الاستراتيجي المؤلم لهذه الحرب الكونية، التي أُديرت على مسرح عمليات في أوكرانيا، وفيها طرفان متحاربان، وهي في الحقيقة حرب عالمية بالوكالة، لها تأثيراتها وتداعياتها المباشرة على منطقتنا وصغار اللاعبين في هذا العالم.
العالم في مرحلة إعادة تشكيل سريعة مخيفة شديدة الانتهازية، بلا قلب، بلا إنسانية، بلا شرعية دولية، تستخدم القانون الدولي بشكل انتقائي.
لم يعد ممكناً الاستعانة بأحد الكبار الخمسة لمواجهة القوى الإقليمية غير العربية (تركيا، إيران وإسرائيل).
لم يعد أمامنا، بعد الله، إلا تأمين النفس، وتدعيم الكيان العربي، ومحاربة الإرهاب التكفيري، وحماية مشروع الدولة الوطنية المدنية المعتدلة.
غير ذلك هو الهلاك لا قدّر الله.