يقول أحد المعنيّين في كواليس الفاتيكان إنّ الكرسي الرسولي مستاء وغاضب من كلام رئيس الجمهورية ميشال عون للصحيفة الإيطالية، إلى حدّ أنّه يعبّر عن ذلك بسقف عالٍ نادراً ما يستخدمه في دبلوماسيّته الهادئة والصامتة. وسيكون لديه مواقف قريبة تردّ على “حفلة التضليل” الحاصلة في لبنان، والتي تضع مواقف الفاتيكان ضمن أطر في غير محلّها، من خلال تحليلات “أقلّ ما يقال عنها أنّها كاذبة”، والكلام لأحد المعنيين في كواليس الفاتيكان.
بالعودة إلى ما قبل زيارة الرئيس عون للفاتيكان، لا بدّ من الكلام عن مساعٍ يقوم بها الكرسي الرسولي لإنقاذ لبنان من “زوال” صيغته ونموذجه. انطلاقاً من هنا كان حاضراً في كلّ النقاشات، ودائماً، السؤال عن خيارات عون في ما يعتبره “المسيحية المشرقية”.
صحيح أنّ الفاتيكان لديه ملاحظاته على الإدارة الكنسية للأزمة، ودور الكنيسة في مساعدة أبنائها، إلا أنّ ذلك لا ينطبق على العناوين السياسية لبكركي
في مقال سابق كنّا قد أشرنا إلى استعداد الفاتيكان للعب دور مع فريق رئيس الجمهورية في إعادة المزاج المسيحي ممّا يسمّى “مشرقية بعدما انتهت في أحضان إيران وحزب الله”، كما يعبّر مصدر مطّلع على كواليس الفاتيكان، إلى خيارات المسيحيين التقليدية التي تعيد التوازن إلى الدور الذي لعبه المسيحيون، وإلى موازين القوى في الساحة السياسية اللبنانية.
غير أنّه لا شيء من ذلك حصل. فكانت زيارة وزير خارجية الفاتيكان بول ريشارد غالاغير للبنان إنذاراً بأنّ الوضع القائم ليس مقبولاً على مستوى أداء السلطة في عدم تطبيق الإصلاحات، ولا على مستوى الخيارات السياسية والاستراتيجية للمسيحيين بما ينعكس بشكل مباشر على توازنات البلاد. وقد عبّر عن ذلك بكلمتين: “خطر زوال لبنان”.
في تلك الزيارة كان غالاغير واضحاً وضوح الشمس: لا زيارة للبابا فرنسيس للبنان ما دام الوضع القائم على ما هو عليه من حيث التوازنات. فهو لن يأتي مكرّساً الإحباط والانهيار، بل سيزور لبنان عند وضوح حلّ لأزمته. وهذا مرتبط بشكل وثيق بتفاهمات المنطقة بين الولايات المتحدة الأميركية وإيران والمملكة العربية السعودية وروسيا وسوريا. ليس الفاتيكان بعيداً عن خطوط التفاهمات والاشتباكات الإقليمية وكيفيّة انعكاسها على لبنان، بل هو في قلب المطبخ يعمل كي يحافظ أيّ اتفاق على صيغة لبنان التاريخية ويعيد التوازن فيه بعد الخلل الحاصل بفعل فائض قوة حزب الله.
مساءلة عون
في المعلومات أنّ اللقاء بين البابا فرنسيس والرئيس عون، ولقاء الأخير مع ياروليم وغالاغير، كانا أشبه بـ”مساءلة”. مساءلة عون عن نتيجة خياراته الاستراتيجية وأثرها على المسيحيين بشكلٍ خاص، لأنّ المسيحيين في رأي الفاتيكان “ليسوا بخير”، على غير ما عبّر عون في تغريدته حين وصل إلى روما. وقد دار نقاش حول أهميّة حماية المسيحيين والنموذج اللبناني في دولة سيادية والجيش اللبناني. وطُرحت إشكالية حزب الله، فقال عون إنّ الحزب لم يستخدم سلاحه في الداخل. أجابوه وأعطوه أمثلة عن استخدام سلاحه في الداخل. وسُئل عون عن الإصلاحات وعن سبب الانهيار وعن التحقيقات في انفجار مرفأ بيروت وعن اغتيال لقمان سليم. يقول المطّلعون على اللقاءات الفاتيكانيّة إنّ النقاش تطرّق إلى كلّ العناوين بسقف عالٍ من المساءلة. خرج عون من الفاتيكان ليقول للصحيفة الإيطالية ما قاله في الداخل، فأثار غضب واستياء الفاتيكان من كلامه، كما تقول مصادر موثوقة.
تفيد المعلومات أنّ الزيارة طلبها رئيس الجمهورية، وعند الإعداد لها وصلت إلى دوائر الفاتيكان احتجاجات واتصالات مستنكرة تتوقّع أن تُستخدم هذه الزيارة في البازار اللبناني وفي إسقاطات سياسية تصبّ في مصلحة فريق حزب الله. يدرك الفاتيكان هذا جيّداً. لكنّه يعتبر أنّه لا يستطيع رفض استقبال رئيس جمهورية في آخر عهده، بل رأى الزيارة مناسبةً لإيصال عدد من الرسائل، أهمّها أنّ الفاتيكان يدعو إلى تنفيذ الإصلاحات للنهوض من الأزمة الاقتصادية، ووقف نزيف الهجرة، والحفاظ على المجتمع، والعمل من أجل دولة يُحصر السلاح فيها بيد الجيش اللبناني الذي وحده يحمي اللبنانيين مسيحيين ومسلمين.
سيُخرج الغضب الفاتيكاني هذا الفاتيكان عن صمت دبلوماسيّته. ففي المعلومات أنّ السفير البابوي سيقدّم رسالة إلى البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي لمناسبة عيد البشارة، وستتضمّن الرسالة إشارات إيجابية باتجاه بكركي لتكون ردّاً مباشراً على كلّ الكلام المنشور عن سوء العلاقة بين الصرحين على خلفيّة الطروحات السياسية.
إقرأ أيضاً: الفاتيكان سأل عون: أين الاستراتيجية الدفاعية وتحقيق لقمان سليم؟
صحيح أنّ الفاتيكان لديه ملاحظاته على الإدارة الكنسية للأزمة، ودور الكنيسة في مساعدة أبنائها، إلا أنّ ذلك لا ينطبق على العناوين السياسية لبكركي. فعناوين الصرح البطريركي منسجمة مع عناوين الفاتيكان، لكن في قالب مختلف وتعابير مختلفة، وتصبّ دائماً في خانة الثوابت الفاتيكانية التي يتعامل بها مع لبنان.