يوم أعلنت المملكة العربية السعودية سحب سفيرها من لبنان وتبعتها دول خليجية أخرى انسحاباً أو اعتكافاً، رفضاً للسياسات اللبنانية الخاضعة لحزب الله ومن خلفه إيران، كان واضحاً أنّ باب الخروج ليس إلا طريقاً لدخول من نوع آخر، والمغادرة هي خطوة على طريق العودة.
ترتكز المملكة العربية السعودية على دبلوماسية رمزيّة، وكانت من الدول الأولى التي اعتمدت هذه المدرسة، التي كرّس مبادئها عميد الدبلوماسيين الأمير الراحل سعود الفيصل. تمثّل هذه الدبلوماسية نوعاً من المزيج بين لعبة الشطرنج ولعبة البلياردو. ويؤكّد ذلك أنّ التعاطي مع السعودية، كما كان الحال سابقاً، أصبح ضرباً من ضروب الخيال. فهنا لا بدّ لنقلة أيّ بيدق من بيادق الطاولة أن تكون لها خطوة تالية أو ضمن استراتيجية متكاملة. فلا تؤخذ الدنيا غلاباً، ولا يؤخذ في السياسة أو غيرها من دون عطاء في المقابل. وعادة قد يكون الهدف من التصويب على إحدى كرات طاولة البلياردو إصابة طابة أخرى تكون هي الهدف الأخير.
تعرف السعودية أنّها في اللحظة التي تقرّر العودة إلى لبنان أو إلى سوريا أو إلى أيّ ميدان من الميادين، ستكون قادرة على الحضور بقوّة وفعّالية
يثبّت هذا نظرية الخروج في سبيل الدخول. وربّما بالإمكان إثبات هذا الواقع من خلال ما قاله البطريرك الماروني بشارة الراعي أثناء زيارته مصر ولقائه الأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط حين نظر إلى خريطة العالم العربي وأشار إلى تكاملها. وأكّد في موقف آخر حرص لبنان على انتمائه العربي وعلاقاته المعزّزة مع العرب، ولا سيّما دول الخليج والمملكة العربية السعودية.
ليس تفصيلاً أن يصدر موقف كهذا عن رأس الكنيسة المارونية، ومن مصر تحديداً. فذلك يشير إلى استجابة لبنانية سريعة وواضحة للمبادرة الخليجية التي تقودها دولة الكويت، وإلى تكامل موقف الراعي مع موقف رئيس الحكومة نجيب ميقاتي الذي جدّد الالتزام بالمبادرة الكويتية، وجاء الرد ترحيباً سعودياً مشروطاً.
يأتي ذلك بعد جملة وقائع وتطوّرات سيكون لبنان أحد أبرز المتأثّرين بها:
أوّلاً، اللقاءات الفرنسية السعودية المشتركة والمكثّفة منذ اللقاء بين الرئيس إيمانويل ماكرون ووليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان.
ثانياً، تشكيل خليّة عمل مشتركة بين السعوديين والفرنسيين، تضمّ مسؤولين في الديوان الملكي والخارجية والمخابرات من الجانب السعودي، ومسؤولين من الإليزيه والخارجية والمخابرات عن الجانب الفرنسي. مهمّة هذه الخليّة هي التفاهم والتنسيق في آليّة توزيع المساعدات الإنسانية، والسعي إلى عودة السفير السعودي إلى بيروت لمواكبة الانتخابات النيابية والتطوّرات السياسية.
ثالثاً، اجتماع جديد لخليّة الأزمة المشتركة سيُعقد في الأيام المقبلة لتنسيق المزيد من الخطوات، وسط معلومات تفيد بأنّ عودة السفير السعودي إلى لبنان أصبحت جدّيّة وقريبة، وقد تكون بحلول شهر رمضان المبارك.
رابعاً، الموقف الذي تتّخذه السعودية من وقائع التطوّرات العالمية، ولا سيّما الحرب الروسية الأوكرانية التي دفعت العالم أجمع إلى أن يقصد السعودية بغية رفع إنتاج النفط، وهذا سيكون له مقابل حتماً، وهو أكبر دليل على أنّه لم يعد بالإمكان التعاطي مع السعودية على قاعدة “وجوب الدفع مسبقاً” والبحث في البديل أو المكسب فيما بعد.
خامساً، مراقبة السعودية لمسار العلاقات الأميركية الإيرانية في ضوء المفاوضات المستمرّة لإبرام اتفاق نووي في فيينّا. وحتماً سيكون لها موقف في ضوء استمرار الهجمات الحوثية على الأراضي السعودية واستهداف قطاعات نفطية. فغاية إيران من هذه الهجمات واضحة، وهي تنفيذ انتقام أميركي من الرياض على خلفيّة رفض الأخيرة رفع الإنتاج النفطي، واستعجال دخول المملكة سوق النفط العالمي في لحظة الحاجة الأميركية الماسّة إلى خفض الأسعار. وهذا لن يبقى من دون ردّ سياسي.
سادساً، زيارة رئيس النظام السوري بشار الأسد لدولة الإمارات العربية المتحدة، وهي زيارة خاطفة وسريعة لها مجموعة أهداف: أوّلها تجنّب المزيد من الانهيارات الماليّة والاقتصادية والنفطية والغذائية في سوريا من خلال البحث عن غطاء ودعم عربيّين. ثانيها السعي إلى التقرّب من العرب. ثالثها محاولة تقديم نفسه على أنّه قادر على لعب دور في تخفيف التوتّر مع إيران.
سابعاً، لا يمكن للسعودية أن لا تبدي اهتماماً أساسيّاً بلبنان، انطلاقاً من اهتمامها بكلّ دول المنطقة باعتبارها دولة إقليمية فاعلة ومؤثّرة. هذا ولا يمكن الوصول إلى أيّ حلّ للأزمة اللبنانية بدون موافقة سعودية سياسياً، اقتصادياً، ماليّاً، واستثمارياً. والحال نفسه بالنسبة إلى سوريا التي لن يتمكّن أحد من وضع لبنة واحدة على طريق إعادة الإعمار فيها بدون موافقة المملكة السعودية.
ثامناً، برز الاهتمام السعودي بالساحة اللبنانية أخيراً من خلال جملة تطوّرات: أوّلها اللقاءات التي عقدها مسؤول سعودي في باريس مع شخصيات لبنانية للبحث في ملف الانتخابات النيابية وإمكانية التدخّل لمنع سقوط لبنان نهائيّاً. ثانيها زيارة يجريها الوزيران السابقان وائل أبو فاعور وملحم الرياشي للسعودية، وهي الثانية خلال أشهر قليلة، والهدف منها عقد لقاءات والتنسيق مع السعودية لمعرفة موقفها من الاستحقاق الانتخابي. وهذا يرتبط بضرورة إعادة إنتاج التحالفات بين القوى السياسية اللبنانية التي تُعتَبر حليفة طبيعية للسعودية، وعلى خصومة مع حزب الله. في هذا الإطار، يعتبر البعض أنّ الوقت قد تأخّر لجمع الحلفاء كلّهم، ولا بدّ من الحصول على مزيد من الوقت لرصّ الصفوف، خصوصاً أنّ شخصيات عديدة أعلنت عزوفها عن الترشّح. وهذا أمر لن يكون مريحاً بالنسبة إلى الشارع السنّيّ الذي يحتاج إلى أن يكون فاعلاً على الساحتين السياسية والانتخابية، ولذلك يرى هؤلاء أنّه في حال عدم النجاح في رصّ الصفوف فلا بدّ من تأجيل الاستحقاق بانتظار بلورة الجسم السياسي اللازم لخوض المعركة. ولكن لا شيء محسوم.
إقرأ أيضاً: وليّ العهد السعوديّ واستعادة الدولة الوطنيّة العربيّة
تاسعاً، تعرف السعودية أنّها في اللحظة التي تقرّر العودة إلى لبنان أو إلى سوريا أو إلى أيّ ميدان من الميادين، ستكون قادرة على الحضور بقوّة وفعّالية، وأنّ أيّ حوار يبحث عن تسوية لبنانية ستكون هي طرفاً مؤثّراً فيه، وهذا نتيجة قوّة التأثير والفعّالية السياسية والحاجة إلى حضورها لبنانياً وإقليمياً ودولياً. وعندئذٍ ستكون قادرة على فرض الشروط، سواء في ما يتعلّق بالتزام اتفاق الطائف كاملاً وتطبيقه بشكل غير محرّف، أو بتأليف أيّ تشكيلة حكومية بعد إنجاز تلك التسوية، أو حتى باختيار اسم رئيس الحكومة.
تتعلّق المسألة بالتوقيت فقط.