السعوديّة وانتقال الحكم: تمّ وما زال وسيظلّ!

مدة القراءة 5 د

منذ أن قامت الدولة السعودية الأولى (1744-1818) لم تعرف معادلة الحكم في الرياض أسلوب حكم وطريقة إدارة عابرة لِما هو متوارَث من قواعد العُرف والقبيلة والخواطر السياسية مثلما هو حادث في حقبة الملك سلمان بن عبد العزيز (مواليد 1935) ووليّ عهده الأمير محمّد (1985).

إنّها حقبة فريدة ومختلفة في حكم آل سعود تقوم فيها لغة المصلحة الوطنية والدور الإقليمي وخفض الاعتماديّة على واشنطن مثلما هو حادث الآن.

هناك صفات جينيّة فطريّة تجدها في معظم أبناء الملك المؤسّس عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود، أفضل من وصفها هو الكاتب البريطاني كينيث ويليامز حينما وصف الملك المؤسّس: “تجمّعت لدى هذا الرجل صفات متعدّدة، فهو جندي ومصلح مبدع مبتكر، وتقيّ ورع صالح، وإنسان لطيف مهذّب، وراسخ متين، وذكيّ حاذق لبيب، وشجاع جريء مقتحم نبيل”.

من تلك المدرسة نهل وتعلّم الفتى سلمان بن عبد العزيز، ونضج وأنضجته تجربة إمارة الرياض لأكثر من نصف قرن كان فيها أميناً لشؤون العائلة المالكة والأكثر قرباً من الملوك خالد وفهد وعبد الله.

هذه كلّها جعلت للرجل صبغته الموروثة، الصبغة “السلمانيّة في إدارة الحكم” (نسبة إلى الملك ووليّ عهده)، فكانت له خمس صفات خاصّة به:

1- إنّ مركز القرار في الرياض واحد وليس متعدّد التيارات، بمعنى أنّ الملك يحكم وحده أو عبر وليّ عهده من دون وجود مراكز ثقل وازنة في صناعة القرارات الكبرى.

2- إنّ نظام البيعة المنصوص عليه في نظام الحكم منسجم تماماً مع إرادة الملك سلمان في اختياراته وأنظمته، وإنّ الخيار في المنصب يتمّ للأفضل وليس للأكبر في السنّ.

3- إنّه لا دور استثنائياً للعائلة الحاكمة في تسيير أمور الدولة، بمعنى أنّ الموظف العامّ في الدولة، سواء كان أميراً أو صاحب سموّ ملكيّ، يستمرّ أو لا يستمرّ في أداء عمله الحكومي ليس لمكانته العائلية بل لكفاءته وانضباطه الكامل في أداء ما أُوكل إليه.

4- إنّ السلطة الدينية لم تعد شريكة في تقاسم صناعة القرار تطبيقاً للعرف التاريخي (آل سعود يحكمون وآل الشيخ يقدّمون الفتوى).

باختصار شديد لم يعد المذهب الوهّابي يصوغ أسلوب الحياة الاجتماعية أو رقيباً شرعيّاً على سياسات الحكم.

5- تحوّلت السعودية في عهد الملك سلمان إلى دولة طامحة إلى قيادة الخليج العربي والتأثير الإقليمي والبحث عن دور دولي (مجموعة العشرين – العلاقة مع الكبار وبالذات مع واشنطن).

 

الدولة المدنية

فكرة مشروع الدولة المدنية الحديثة التي تسعى إلى إحياء المجتمع المدني مقابل السلطة الدينية، وتمكين المرأة مقابل إضعاف دورها، والانفتاح القويّ على الثقافات العالمية مقابل التشدّد في المحافظة الشديدة، هي ما تتحوّل إليه البلاد والعباد بشكل تدريجيّ متصاعد من العام 2014 حتى الآن.

من هنا، ومن هنا فقط، يتعيّن على المراقب المحايد للملفّ السعودي والراغب في الإجابة على سؤال “ما هو مستقبل الحكم في السعودية؟” أن يدرك الوقائع والحقائق التالية:

1- إنّ الحكم في البلاد هو حكم الملك سلمان، وإنّ سياسات وليّ عهده من الألف إلى الياء هي ترجمة لأفكاره وإرادته الكاملة.

2- إنّ دور الأمير محمد بن سلمان هو التقيّد العصري الصارم المنضبط لمشروع الوالد الملك.

3- إنّ وليّ العهد-الابن يحظى بالدعم الكامل في أن يتولّى وحده دون غيره تسيير المهامّ التنفيذية العليا للبلاد.

4- إنّ انتقال الحكم من الرياض حادث بالفعل بشكل رضائي بين مليك البلاد ووليّ عهده، بحيث تصبح الصبغة هي المزج القويّ بين حكمة 70 عاماً من التمرّس العميق في السياسة لسلمان بن عبد العزيز منذ أن تعلّم على يد والده الملك المؤسّس وإخوانه، وأهمّهم فيصل وفهد، رحمهما الله، وبين قوّة واندفاعة وطاقة “البلدوزر السياسي الشابّ” الأمير محمد بن سلمان.

لم يعد ملك السعودية ووليّ عهده يثقان بالحليف الأميركي الذي يسعى إلى إعادة تأهيل ميزان “الدور الاستراتيجي الأول للمشروع السعودي”

بايدن والغضب منه

هذا المزيج الذي يرسم حاضر ومستقبل السعودية السياسَّيْن هو الذي يصبغ المملكة التي تعدّى سعر برميل نفطها 140 دولاراً، واستطاعت في العامين الأخيرين أن تتجاوز معدّلات الإنجاز المرسومة في رؤية 2030.

هذه المملكة الآن تُعامل إدارة جو بايدن الأميركية بخشونة ما، ليستشعر قوّتها، وبغضب من خيانة الحليف التاريخي.

إدارة بايدن في حسابات الملك ووليّ عهده الآن هي مشروع طارئ مؤقّت يتمّ الرهان سعودياً على أنّه حالة مؤقّتة طارئة تنتهي كتياره الديمقراطي في انتخابات تجديد المجلس التشريعي، وتعود إلى حالها المعتاد بعد رحيل بايدن صحّيّاً أو هزيمته سياسياً عام 2024.

الرهان على تجاهل محمد بن سلمان أميركياً فشل، ومحاولة عقاب الرياض لأنّها راهنت على دونالد ترامب في انتخابات 2016 لم تأتِ بنتائج.

الآن تسعى إدارة بايدن إلى مغازلة الرياض من أجل الاستفادة من تراكم فارق أسعار النفط من 65 دولاراً للبرميل إلى ما يتجاوز 140 دولاراً، والمرشّح أن يصل إلى سعر مجنون هو حاجز 200 دولار.

لم يعد ملك السعودية ووليّ عهده يثقان بالحليف الأميركي الذي يسعى إلى إعادة تأهيل ميزان “الدور الاستراتيجي الأول للمشروع السعودي”.

بشكل واقعي براغماتي سوف نرى تعاوناً وثيقاً بين بكين وموسكو، ورهاناً حديدياً على معسكر الرياض-أبوظبي-القاهرة.

تسير السعودية “السلمانيّة” بقوّة نحو الانتقال الكبير الذي بدأ بالفعل بذكاء وصمت.

نظرة واحدة سريعة لا تحتاج إلى أن يكون المطّلع على وظائف الأمير محمد بن سلمان الحالية ذا ذكاء مساوٍ لذكاء “آينشتاين” كي يعرف منسوب القوّة التي تتوافر للرجل.

إقرأ أيضاً: ولاية عهد محمّد بن سلمان

الأمير محمد هو وليّ العهد، نائب رئيس الوزراء، رئيس مجلس الشؤون السياسية والأمنية ومجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية، والمشرف الرئيسي على مشروع رؤية 2030، وصاحب القرار الرئيسي في الصندوق السيادي السعودي ومشروع خصخصة “أرامكو”، والمطوّر الرئيسي لمشروع “نيوم”، والمشرف على سياسة التسليح السعودية وتوطين صناعة السلاح في البلاد.

بعد ذلك كلّه، هل هناك حاجة إلى الاستفسار عن مستقبل السلطة في السعودية؟

مواضيع ذات صلة

روسيا ولعبة البيضة والحجر

منذ سبع سنوات كتب الأستاذ نبيل عمرو في صحيفة “الشرق الأوسط” مستشرفاً الأيّام المقبلة. لم يكتب عمّا مضى، بل عمّا سيأتي. نستعيد هذا النصّ للعبرة…

سورية القويّة وسورية الضعيفة

سورية القويّة، بحسب ألبرت حوراني، تستطيع التأثير في محيطها القريب وفي المجال الدولي. أمّا سورية الضعيفة فتصبح عبئاً على نفسها وجيرانها والعالم. في عهد حافظ…

الرّياض في دمشق بعد الفراغ الإيرانيّ وقبل التفرّد التركيّ؟

سيبقى الحدث السوري نقطة الجذب الرئيسة، لبنانياً وإقليمياً ودوليّاً، مهما كانت التطوّرات المهمّة المتلاحقة في ميادين الإقليم. ولا يمكن فصل التوقّعات بشأن ما يجري في…

الرّافعي لـ”أساس”: حلّ ملفّ الموقوفين.. فالقهر يولّد الثّورة

لم يتردّد الشيخ سالم الرافعي رئيس هيئة علماء المسلمين في لبنان في الانتقال إلى دمشق التي لم يزُرها يوماً خوفاً من الاعتقال. ظهر فجأة في…