منذ سقوط الاتحاد السوفياتي عام 1991 لم تُعِر القارّة العجوز مسألة الأمن الأوروبي الاهتمام الكافي، وانصرفت إلى تطوير اقتصاداتها، ومستوى معيشة شعوبها، وردم فجوة الفوارق بين شعوب بلدانها “القديمة والجديدة”، كما جرى مع ألمانيا الشرقية والدول المنضمّة حديثاً إلى الاتحاد الأوروبي.
حتى إنّ أوروبا القديمة لم تكترث للحروب في وسطها بين صربيا وكرواتيا وسلوفينيا والجبل الأسود، ولا لِما جرى في البوسنة والهرسك وكوسوفو، ولم تتّعظ من تفكّك يوغوسلافيا السابقة وآثاره المستمرّة والواضحة، لدرجة أنّها عكفت لأكثر من سنتين على مسألة الـBREXIT تناقشها وعلى قضية حدود صيد الأسماك ومصير علاقات معابر إيرلندا الشمالية بالمملكة المتحدة تعالجهما، في حين كان وريث الحكم في موسكو يحدِّث جيشه القديم ويطوِّر صواريخه العابرة للقارّات ويربط آلته العسكرية بالأقمار الصناعية وشبكات الإنترنت، ويستثمر المليارات في الصناعة الحربية فيعرض جديدها في المعارض حول العالم تحت أعين أوروبا الغافلة.
اعتبرت أوروبا أنّ الحرب العالمية الثانية أرست نهائيّاً الحدود بين بلدانها وباتت لا تُمسّ. وسلّمت بأنّ الأمن النووي “المستقرّ” أمرٌ مفروغ منه.
تخطِّط أوروبا بمنحاها هذا لإنهاك روسيا اقتصاديّاً وتقنيّاً وعزلها سياسياً آملةً دفع الكرملين إلى التراجع أو إنهاكه خلال سنوات وجعله يقرّ بضرورة احترام الأمن الأوروبي
“أوروبا في موت سريري”
في ما يتعلّق بأمن الطاقة الضرورية حياتيّاً للشعوب وللعجلة الاقتصادية، اعتمدت أوروبا على الطاقة الروسية التي أتتها عبر الأراضي الأوكرانية والتركية وبحر البلطيق شمالاً، أكثر من اعتمادها على مصادر بديلة. فتحكّمت موسكو بسلاح الطاقة لتشدّ الخناق حول رقاب الأوروبيين جاعلةً منه أداةً للسياسة الخارجية الروسية. فاجتمع سلاح الطاقة مع سلاح الغزو ومع اجتياز الحدود وسلاح تهجير الملايين مضافاً إليها سلاح التهديد بالنووي، ليوضِّح ما قاله الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون: “أوروبا في موت سريري”.
أعاد تصريح الرئيس الفرنسي تسليط الضوء على ما ردّده وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد (كانون الثاني 2003) عن “أوروبا الكهلة وانتقال الثقل إلى الشرق”، وما أصرّ عليه الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب من ضرورة “رفع مخصّصات الدفاع في أوروبا” لكي لا تعوّل على الولايات المتحدة في الدفاع عنها.
أوروبا منحت موسكو، بمواقفها الفاترة والمائعة في ما يتّصل بأمن القارّة منذ انهيار الاتحاد السوفياتي وسقوط جدار برلين، حقّ إملاء طرق الحفاظ على أمن روسيا وحقّها في منع كييف من التفتيش عن وسائل تحافظ على أمن أوكرانيا. غزت روسيا أوكرانيا وتخطّى تهديدها الدولة المعتدى عليها ووصل إلى مجمل المجتمع الدولي، وعلى رأسه القارّة الأوروبية.
مغامرات وهزائم
تسبّبت سياسة إدارة الظهر الأوروبية بالمآسي والهزائم والإخفاقات، مرّة مع النازية الهتلريّة والفاشية الموسولينيّة، ومرّة أخرى مع فرانكو الإسباني، ومرّات مع الشيوعية السوفياتية بقيادة ستالين ومَن ورثه، ومع الشيوعية اليوغوسلافية بقيادة تيتو، واليوم مع البوتينيّة الروسية. كانت مغامرات “حكم الفرد الواحد” سهلةً فيما طريق إعادة أوروبا إلى سابق عهدها أكثر وعورة.
اعتبرت أوروبا أنّ الحرب العالمية الثانية أرست نهائيّاً الحدود بين بلدانها وباتت لا تُمسّ. وسلّمت بأنّ الأمن النووي “المستقرّ” أمرٌ مفروغ منه
في مقابل الضعف الأوروبي الموصوف، تسعى روسيا دوماً إلى أن تبقى لاعباً دوليّاً يعترف الغرب بدوره، وإلّا أحرجت العالم بشغبها في أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا وفي شبه جزيرة القرم وفي غروزني وفي سوريا وإفريقيا الوسطى وليبيا ومالي، سواء مباشرة بجيشها أو بواسطة ميليشياتها الرديفة فاغنر.
لم تسلَم الجرّة هذه المرّة مع بوتين. إذ أدّت طريق الغزو إلى نتائج عكسية عالمياً وأوروبياً. ففي الولايات المتحدة الأميركية تمحورت الحملة الانتخابية الرئاسية الأخيرة في جانبها الخارجي حول أوكرانيا، وإثر الغزو اتّحد الحزبان وأجمعا على إقرار حزمة مساعدات تتجاوز 14 مليار دولار على الرغم من سياسة شدّ الحزام والتقشّف.
وعلى صعيد حلف شمال الأطلسي الذي كان مصاباً بما يشبه “الموت الدماغي”، ها هو يتنفّس نتيجة غزو روسيا لأوكرانيا ويبحث كيفيّة ضمان الحماية للدول العديدة المنضوية تحت رايته.
وحدة أوروبا مجدّداً
أمّا أوروبا، فلم تعرف معنى الوحدة الحقيقية العميقة كما تعرفها اليوم بعد غزو أوكرانيا. هبّت تمارس الضغوط الهائلة الدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية والإنسانية لرفع تكلفة قرار الغزو على روسيا ولعدم جعل “الغنيمة الأوكرانية” رخيصة، ولمنع موسكو حتى من التفكير في الانتقال إلى هدف ثانٍ آخر إن كانت أجندتها تنحو في هذا المنحى. فخصّصت ألمانيا 100 مليار يورو لتطوير دفاعها، وحجبت الترخيص عن خط أنابيب “نورد ستريم 2″، ومدّت كييف بأسلحة فتّاكة تسهم في صمودها. فيما انتقلت سويسرا والنمسا من الحياد إلى موقع الداعم، وأخذت فنلندا تناقش انضمامها إلى الناتو. وطرحت وارسو مدّ كييف بالطائرات بعدما فتحت حدود بولونيا لاستقبال ما يفوق مليون لاجئ بعكس ما فعلته عندما حاول بوتين بواسطة لوتشينكو فتح حدود بيلاروسيا لإغراقها بالمهاجرين.
دعت باريس إلى عقد مؤتمر في فرساي (المكان الذي أذلّت فيه ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى) ليشهد المكان على التوافق الأوروبي، وليقرّر المؤتمرون تحديث الاتحاد وجعله أكثر حزماً وسرعةً في اتّخاذ القرارات، وتكوين تصوّر مستقبلي موحّد حول الأمن الأوروبي وحول تنوّع مصادر الطاقة وعدم الوقوع تحت الابتزاز الروسي. وأصدر قادة الاتحاد الأوروبي قرارهم التاريخي بـ”الدمج” على طريق الخطوة اللاحقة المتمثّلة في انضمام أوكرانيا إلى عضويّته.
إقرأ أيضاً: Noviyy Russkiy Mir عالَم روسيّ جديد؟
تخطِّط أوروبا بمنحاها هذا لإنهاك روسيا اقتصاديّاً وتقنيّاً وعزلها سياسياً آملةً دفع الكرملين إلى التراجع أو إنهاكه خلال سنوات وجعله يقرّ بضرورة احترام الأمن الأوروبي.
وحَّد غزو أوكرانيا أوروبا والغرب والعالم بوجه الغازي المعتدي على القانون الدولي والإنساني وعلى ميثاق الأمم المتحدة، والمهدِّد للأمن والسلم العالميّين، غير أنّه كان من أبرز نتائجه إعادة الشباب إلى القارّة العجوز.
* كاتب لبنانيّ مقيم في دبي