تبدّلت الأحوال في العاصمة النّمساويّة فيينا. لم تعُد روسيا مُستعجلة لعودة الاتفاق النّوويّ بين إيران والمجموعة الدّوليّة والولايات المُتّحدة. هذا ما تؤكّده المُؤشّرات والمعلومات الآتية من العاصمة الأوروبيّة.
بعد “الإيجابيّات” و”البشائر” التي رشحَت طوال الأيّام التي سبَقَت الغزو الرّوسي لأوكرانيا، عادَت الغيوم تُلبّد سماء طاولة المُفاوضات النّوويّة، ولم تكن “السّلبيّات المُستجدّة” أميركيّة أو إيرانيّة كما جرت العادة، بل إنّ التعقيد روسيّ.
بحسب المعلومات التي حصلَ عليها “أساس” من مصدرٍ أميركيّ مسؤول، فإنّ المستجدّ هو طلب روسيا أن تضمن واشنطن، بـ”اتفاقات مكتوبة”، ألا تؤثّر العقوبات الأميركيّة والغربيّة على روسيا، على علاقة روسيا بطهران
ماذا يحصلُ في فيينا؟
ليل الإثنين الماضي، حَزَمَ الوفد الإيراني برئاسة علي باقري كني حقائبه، وقرّر العودة إلى طهران من دون توضيح الأسباب، بحسب ما ذكرت صحيفة “وول ستريت جورنال” الأميركيّة. ونقلَت الصّحيفة عن دبلوماسيين قولهم: “إذا لم يتمّ اتّخاذ القرارات النهائيّة الآن في واشنطن وطهران، فإنّ الاتفاق النووي سيكون في خطر”.
بحسب المعلومات التي حصلَ عليها “أساس” من مصدرٍ أميركيّ مسؤول، فإنّ المستجدّ هو طلب روسيا أن تضمن واشنطن، بـ”اتفاقات مكتوبة”، ألا تؤثّر العقوبات الأميركيّة والغربيّة على روسيا، على علاقة روسيا بطهران. وهذا هو السّبب الرّئيس وراء “مُغادرة كني والوفد المُرافق العاصمة النّمساويّة”. وبالنسبة إلى واشنطن، فإنّ “المطلب الرّوسيّ” غير مقبول إطلاقاً، لأنّ العقوبات على روسيا لا علاقة لها بالبرنامج النّوويّ الإيرانيّ. وما تحاوله روسيا هو حماية مصالحها مع إيران، وضمان ألا تزيح إيران عن تحالفها معها، من خلال ضمانات أميركية مكتوبة في الاتفاق النووي. وهو ما يعني أنّ روسيا تطلب المستحيل، وأنّها تريد تطيير فيينّا لأسباب غير معلنة.
[VIDEO]
ما سرّ التعقيد الروسيّ؟
يذهَبُ المصدر أبعدَ من ذلك ويكشف أنّ سرّ التعقيد الرّوسيّ للاتفاق النّوويّ تقف وراءه خشية في الكرملين من عودة ضخّ النّفط والغاز الإيرانيّيْن إلى الأسواق العالميّة، وأن تتحوّل إيران إلى أحد البدائل الجدّيّة التي يبحث عنها الغرب بين قطر وفنزويلا والشرق الأوسط، وذلك لتعويض الحصّة الرّوسيّة في الأسواق، التي يخطّط الغرب، على ما يبدو، لوقف الاعتماد عليها. وهذا ما سيجعل الكرملين يخسر أهمّ أوراقه القويّة: سوق الطّاقة الأوروبي، والأسعار العالمية.
بعد العقوبات الأميركيّة، انخفض إنتاج النّفط الإيرانيّ من 4 ملايين برميل يوميّاً (منها 1.7 مليون برميل للاستهلاك المحلّي) إلى 2 مليون برميل، تُصدَّر منها 300 ألف برميل فقط. وكانت شبكة CNN نشرَت في 2012 أنّ إيران تستطيع أن ترفع إنتاجها إلى 7 ملايين برميل في اليوم، وأنّها ستكون قادرة على تصدير 5.3 ملايين برميل إلى الأسواق العالميّة. تساوي هذه الكميّة نصف ما تنتجه روسيا من النّفط الخام، وأكثر من نصف ما تصدّره (تنتج حوالي 10.8 ملايين برميل، 7 ملايين منها تُصدَّر للأسواق العالميّة).
أمّا ما تبقّى من الحصّة الرّوسيّة في سوق النّفط العالميّ، فتسعى الولايات المُتّحدة إلى الحصول عليه من فنزويلا. وقد زارَ وفدٌ أميركيّ العاصمة الفنزويليّة كاراكاس نهاية الأسبوع الماضي، وبحث علناً في إعادة تصدير النفط الفنزويلي لقاء اتفاقات محدّدة مع أميركا. وبحسب مصدر رسميّ في وزارة الخارجيّة الأميركيّة لـ”أساس”، فإنّ اللقاء الأميركيّ – الفنزويلّيّ كان “إيجابيّاً وودّيّاً”.
غضبٌ إيرانيٌّ على “الحليف الرّوسيّ”؟
قبل أن يغادر الوفد الإيراني فيينا بساعاتٍ قليلة، جرى اتصال بين وزير الخارجيّة الإيراني حسين أمير عبد اللهيان ونظيره الرّوسيّ سيرغي لافروف. بعد الاتصال غادر الإيرانيون فيينا. وقد قال عبد اللهيان للافروف إنّ بلاده “تُعارض الحرب، وتدعم الحلّ السّياسيّ للأزمة في أوكرانيا”.
وفجرَ الثّلاثاء، كانت الصّحف الإيرانيّة تشنّ هجوماً على الموقف الرّوسيّ في فيينا.
لم تعد الرّحلة إلى فيينا “مؤنسة” للوفد الإيرانيّ. ومن عجائب الدّهر أنّ طهران انضمّت إلى واشنطن وباريس وبرلين ولندن، في خندقٍ واحد، بينما صارت موسكو في الخندق المُقابل
في مقاله الافتتاحي بصحيفة “جهان صنعت”، استنتج الكاتب الإيراني صلاح الدين هرسني أنّ “روسيا تحاول الربط بين موضوع الاتفاق النووي والحرب ضدّ أوكرانيا”، واصفاً الموقف الرّوسيّ الأخير بـ”غير البنّاء”، وبأنّه “محاولة لوقف عجلة الاتفاق النوويّ، وسمٌّ قاتلٌ ومدمّر لاتفاق 2015”. وأشارَ هرسني إلى أنّ “خطوة موسكو ستدفع الصين إلى أن تسلك الطريق نفسه، وأن تطلب شروطاً لضمان علاقاتها الاقتصاديّة مع طهران”.
بحسب صحيفة “صداي إصلاحات”، قال الرّئيس الأسبق للجنة الأمن القومي والسّياسة الخارجيّة في مجلس الشّورى الإيراني حشمت فلاحت بيشه، إنّ المبعوث الروسي إلى فيينا ميخائيل أوليانوف “كانت مُهمّته عرقلة توقيع الاتفاق قبل الغزو الروسي لأوكرانيا، وقد نجح بذلك”.
وانتقد البرلمانيّ الأسبق بعض من سمّاهم بـ”الأطراف الدّاخليّة التي تُحاول تبرير السّلوك الرّوسيّ، و”الإجرام” الذي يقوم به بوتين في أوكرانيا”، في إشارةٍ إلى تغطية الإعلام الرّسميّ في البلاد للحرب الروسية على أوكرانيا.
بصمات بينيت؟
تزامناً مع المطالب الرّوسيّة المُستجدّة في فيينا، كان رئيس الوزراء الإسرائيليّ نفتالي بينيت يحطّ رحاله في الكرملين يومَ السّبت الماضي. من حيث الشّكل، ليسَ تفصيلاً عابراً أن يعملَ مسؤول إسرائيليّ أرثوذكسيّ يومَ السّبت الذي يُعتبر “يوماً للرّاحة عند اليهود”، إلّا لضرورةٍ قصوى.
بحسبِ مصدرٍ أميركيّ مسؤول، فإنّ بينيت بحثَ مع بوتين 3 ملفّات:
الأوّل، الوساطة الإسرائيليّة بين روسيا وأوكرانيا بمُباركة “أميركيّة”، وكانَ “أساس” أوّل من كشفَ عنها قبل اندلاع الحرب في أوكرانيا بأسابيع.
الثّاني، ألّا تُسلّم تل أبيب أسلحة دفاعيّة لأوكرانيا بشكلٍ مباشر أو عبر طرفٍ ثالث، وخصوصاً نظام القبّة الحديديّة، في مُقابل أن تُبقي روسيا اليد الإسرائيليّة طليقةَ في أجواء سوريا ضدّ الوجود الإيرانيّ.
إقر أيضاً: هل تعرقل موسكو الاتّفاق النوويّ؟
الثّالث والأهمّ، الاتفاق النّوويّ الإيراني. إذ كانَ بينيت يشرحُ للرّئيس الرّوسيّ “مخاطر” العودة إلى الاتفاق، وعودة إيران إلى أسواق الطّاقة العالميّة، لِما لذلك من أثر مُباشر على الاقتصاد الرّوسيّ الذي سيكون مُهدّداً بالعزل عن سوق الطّاقة في حال وجود البُدلاء، وفي مُقدّمهم إيران وفنزويلا.
لم تعد الرّحلة إلى فيينا “مؤنسة” للوفد الإيرانيّ. ومن عجائب الدّهر أنّ طهران انضمّت إلى واشنطن وباريس وبرلين ولندن، في خندقٍ واحد، بينما صارت موسكو في الخندق المُقابل….